نظرية عدالة كل الصحابة



نظرية عدالة كل الصحابة [1]


الأساس الذي استند إليه مروّجو النظرية

 شرح ابن حبان أسباب عدالة كل الصحابة على النحو التالي :
" إن الله عز وجل نزّه أقدار أصحاب رسوله عن ثلب قادح, وصان أقدارهم عن وقيعة متنقص , وجعلهم كالنجوم يقتدى بهم.
وقد قال الله جل وعلا ( إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله وليّ المؤمنين) ثم قال (يوم لا يخزي الله النبيَ والذين آمنوا معه ).
فمَن أخبر الله أنه لا يخزيه يوم القيامة فقد شهد له باتباعه ملة إبراهيم حنيفاً, لا يجوز أن يُجرّح بالكذب...
وأما مَن شهد التنزيل وصحب الرسول(ص), فالثلب لهم غير حلال, والقدح فيهم ضد الإيمان, والتنقيص لأحدهم نفس النفاق, لأنهم خير الناس قرناً بعد رسول الله(ص) بحكم مَن لا ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحى صلى الله عليه وسلم.
وإن مَن تولّى رسولُ الله(ص) إيداعَهم ما ولاّه الله بيانه الناس, لبالحريّ من أن لا يُجرّح, لأن رسول الله(ص) لم يودِع أصحابَه الرسالة وأمرهم أن يبلغ الشاهد الغائب, إلاّ وهم عنده صادقون جائزو الشهادة, ولو لم يكونوا كذلك لم يأمرهم بتبليغ من بعدهم ما شهدوا منه. ولو كان كذلك لكان فيه قدحاً في الرسالة. وكفى بمن عدّله رسول الله(ص) شرفاً.
.... إذ صانَ الله عز وجل أقدارَ الصحابة عن البدع والضلال"[2]

وبالإضافة إلى ما قاله ابن حبان أعلاه, يستند آخرون إلى قول رسول الله(ص) "لا تسبّوا أحداً من أصحابي, فإن أحَدكم لو أنفق مثل أحُدٍ ذهباً, ما أدركَ مدّ أحدهم ولا نصيفه"[3]

كما يستندون إلى قوله تعالى " لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً"[4]


مَن هو الصحابي ؟

وبعد أن تم إعطاؤها بُعداً نفسياً عظيماً, جرى توسيعٌ فظيع لمعنى كلمة صحابي, إلى درجة أنه يمكن القول أنها أصبحت تشمل الكل : الصالح والطالح, المؤمن والمنافق, السبّاق في الإيمان والداخل في الإسلام خوفاً.
فمثلاً جاء في مقدمة كتاب الإصابة لابن حجر " أصحاب الحديث يطلقون اسم الصحابة على كل مَن روى عنه حديث أو الكلمة, ويتوسعون حتى يعدّ مَن رآه رؤية مِن الصحابة. وهذا لشرف منزلة النبي صلى الله عليه وسلم, أعطوا كل مَن رآه حُكمَ الصحابة
... وقال السيوطي في (تدريب الراوي): والأصح في تعريف الصحابي: مَن لقي النبي في حياته مسلماً ومات على إسلامه"[5]

وهذا التعريف العام والواسع جداً وضع كردٍ على المحاولات العقلانية التي بذلها البعض لوضع شروطٍ على تعريف الصحابي, مثلاً كاشتراط أن تكون مدة ملازمته للرسول(ص) سنة أو اثنتين, أو أن يكون قد شارك ببعض الغزوات , وما شابه ذلك من شروط منطقيةٍ تخفف من الغلواء والشطط الذين يتضمنهما ذلك التعريف الواسع جدا . ولكنّ تلك المحاولات باءت بالفشل وانتصرَ هذا التعريفُ المريبُ الذي مكّنَ بعضَ ذوي المآرب المشبوهة من أعتبار مجموعةٍ من أشرس أعداء الرسول(ص) , ممن أسلموا كرهاً ونفاقاً, صحابة أجلاّء واطلاق لقب "رضي الله عنهم" عليهم!

وقد ذكر ابن الأثير[6] آراءَ بعض مَن سبقوه :
" قال أحمد بن حنبل : أصحاب رسول الله(ص) كلّ مَن صَحِبه شهراً أو يوماً أو ساعةً أو رآه
وقال محمد بن اسماعيل البخاري : مَن صَحِبَ رسولَ الله(ص) أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه"

فحسب هذا التعريف, ينال شرف الصحبة ويكون صحابياً مَن تحقق عنده شرطان:
-         مَن التقى بالنبي(ص), سواء كان هذا الالتقاء عن طريق المجالسة أو المحادثة أو المشاهدة. ومَن شاهدَ النبي(ص) أو شاهده النبي(ص) فهو صحابي.
وعمّم البعض أكثر فاعتبروا أنه حتى الأطفال والرضع من الصحابة, لأن المشاهدة لا تنسب لهم, إنما تنسب للنبي(ص) نفسه. وقد كان النبي(ص) يؤتى بالأطفال والمواليد الجدد ليحنكهم ويباركهم.
-         مَن كان مؤمناً بالنبي(ص) أنه نبيّ.



مفارقات بسبب هذا التعريف العجيب
ولما كان التأكّد من إيمان المرء أمراً خارجاً عن قدرة البشر, أصبح بالتالي المعنى الفعلي للصحابي هو : ( مَن كان مسلماً أو متظاهراً بالإسلام ).
فمن الممكن إذن اعتبار المنافقين , دون أن يقصد مروّجو النظرية ذلك, ممن  يشملهم هذا التعريف للصحابة, لأن أغلبيتهم الساحقة ليسوا معروفين للناس بأسمائهم, إلاّ قلّة مشهورة منهم[7]. وكانوا يُظهرون الإسلام. وكانوا يُجالسون النبي(ص) ويسيرون معه.

 وقد كان رسول الله(ص) يطلق كلمة " صحابي " على كل مَن كان معه, مؤمناً كان أم منافقاً, بشرط أن يكون مُظهراً الإسلام. والدليل على ذلك من صحيح البخاري:
 " ...وقال عبد الله بن أبي بن سلول : أقد تداعوا علينا ! لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ. فقال عمر : ألا نقتل يا رسول الله  هذا الخبيث عبد الله؟
فقال النبي : لا يتحدّث الناس أنه كان يقتل أصحابه"[8]
فالنبيّ(ص) لم يكن يعنى بالبواطن, إنما يكلها إلى الله.

وفيما يلي رواية أخرى للواقدي توضح بلا لبس كيف كان تعريف الصحابي بنظر رسول الله(ص) : فأثناء عودته من تبوك تآمر عليه مجموعة من المنافقين ليقتلوه غدراً. ولما علم أسيد بن الحضير بذلك اقترح عليه أن يقتل هؤلاء, فرفض وقال له " إني أكره أن يقول الناس إن محمداً لما انقضت الحرب بينه وبين المشركين وضع يده في قتل أصحابه!
فقال : يا رسول الله : فهؤلاء ليسوا بأصحاب !
قال رسول الله(ص) : أليسوا يُظهرون شهادة أن لا إله إلاّ الله؟
قال : بلى . ولا شهادة لهم.
قال : أليس يُظهرون أني رسول الله؟
قال : بلى . ولا شهادة لهم.
قال : فقد نُهيتُ عن قتل أولئك"[9]

وباختصار, لا يشترط في الشخص حتى يعدّ صحابياً أن يكون مؤمناً حقيقة بالنبي(ص), بل يكفي أن يتظاهر بالإيمان, وأن يموت على هذا الإيمان , أو التظاهر بالإيمان.
وقد أسفرت جهود الرسول(ص) عن إقامة دولة الإسلام التي تزعمها حوالي العشر سنوات في المدينة المنورة, بايعه في نهايتها كل شعب الجزيرة العربية, وشهدوا معه فتح مكة وحجة الوداع. وقبيل وفاة الرسول(ص) كان دين الإسلام قد ساد كل أنحاء جزيرة العرب, فما مات رسول الله(ص) وأحدٌ يظهر الكفر فيها.
وفي دولة الرسول(ص) أزيلت الفوارق تماما بين الحاكم والمحكوم. فكان(ص) يمشي في الطريق وحده, ويقضي حاجاته بنفسه, وكان بإمكان أيّ كان أن يراه ويتحدّث معه ويحضر مجلسه. فكلّ الناس في دولة الرسول(ص) هم صحابة بهذا المعنى.

وهكذا فإن عبد الله بن سعد بن أبي السرح, الذي كان يكتب للنبي(ص) في مكة ثم ارتدّ وافترى على الله الكذب, وأباح الرسول (ص) دمه ولو تعلّق بأستار الكعبة, ولم ينقذه من الموت سوى شفاعة عثمان له وإلحاحه الشديد على النبي(ص) إلى حد الإحراج, هو صحابيّ .
والحكم بن أبي العاص, عدو رسول الله(ص) اللدود, وطريده الذي حرّم عليه دخول المدينة المنورة, وبقي منفياً إلى أن ردّه عثمان أيام خلافته, هو أيضا صحابيّ .
وأبو سفيان بن حرب, رأس الأحزاب وإمام الكفر, الذي لم يدخل الإسلام إلاّ مجبراً يوم الفتح, هو صحابيّ جليل.
وهند بنت عتبة, آكلة كبد حمزة , هي أيضاً صحابية محترمة.
ويوجد في مسند الإمام أحمد بابٌ مستقل بعنوان " حديث بسر بن أرطأة رضي الله عنه [10]" !


المضمون الحقيقي لنظرية عدالة كل الصحابة

جاء في مقدمة كتاب الإصابة لابن حجر " للصحابة – رضي الله عنهم أجمعين- خصيصة, وهي أنه لا يُسأل عن عدالة أحد منهم. وذلك أمرٌ مسلمٌ به عند كافة العلماء. لكونهم على الإطلاق مُعَدلين بنصوص الشرع من الكتاب والسنة, وإجماع مَن يُعتد به في الإجماع من الأمة"[11]

وقال ابن الأثير في مقدمة كتابه أسد الغابة عن الصحابة " فإنهم كلهم عدول لا يتطرق إليهم الجرح, لأن الله عز وجل ورسوله زكياهم وعدّلاهم, وذلك مشهور ..."[12]


تعني فكرة عدالة الصحابة, أن من انطبق عليه التعريف المذكور أعلاه, لا يجوز عليه الكذب والتزوير, ولا يجوز تجريحه مهما فعل. فالعدلُ لا يتعمّد الكذب, وقولُه حُجّة ولا يجوز إساءة الظن به. والصحابة كلهم في الجنة ولا يدخل أحدٌ منهم النار أبداً.
وهذه النظرية ترفع من قدر " الصحابة " إلى مستوى فوق بشري, وتضفي نوعاً من العصمة والقداسة عليهم.
قال الامام السيوطي " العدالة مَلكة – أي هيئة راسخة في النفس – تمنع من اقتراف كبيرة, أو صغيرة دالةٍ على الخسة, أو مباحٍ يخلّ بالمروءة "[13]

" وإذا رأيتَ الرجلَ ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله(ص) فاعلم أنه زنديق. والذين ينقصون أحداً على الإطلاق من أصحاب رسول الله(ص) هم زنادقة"
" ومَن عابَهم أو انتقصهم فلا تواكلوه ولا تشاربوه ولا تصلّوا عليه"[14]

وحسب التعريف المذكور أعلاه, تكون كل الطبقة الأولى من الأمويين, وعلى رأسهم أبو سفيان بن حرب والحكم بن أبي العاص وأولادهما, والوليد بن عقبة الفاسق الفاجر, والمغيرة بن شعبة, الذي كان يسبّ الإمامَ عليّ علناً على المنبر, وعددٌ من الذين اتبعوا معاوية وسايروه طوال عشرات السنين وشاركوه في حكمه, والذين سكتوا عن ارتكابه جرائمَ شنيعة وفعله المنكرات وتسببوا في قتل آلاف الناس , كل هؤلاء صحابة كرام, وعدول, ومروياتهم من الصحاح ينبغي قبولها ولا يجوز ردّها.
كل ذلك بحجة أن رسول الله(ص) يُنسَبُ إليه قول " أصحابي كالنجوم بأيهم اقديتم اهتديتم"[15].

وهكذا بقدرة قادر أصبح المؤمنون الأولون بنبوّة محمد(ص), كخديجة وعليّ وزيد وأبي بكر, متساوين مع أمثال صفوان بن أمية وعيينة بن حصن وغيرهم من الطلقاء والمؤلفة قلوبهم! وصار سيد شهداء أحُد, حمزة بن عبد المطلب مثل قاتله الغادر وحشيّ! ولم يعد ثمّة فرق كبير بين علي بن أبي طالب الذي قاتل مع الإسلام كل معاركه, وبين أبي سفيان ومعاوية الذين قادا كل الحروب ضد النبي(ص)! وغدا عمار بن ياسر, الذي كان يُعَذب بالنار على رمضاء مكة, مثله مثل سهيل بن عمرو الذي أصرّ على حذف عبارة" محمد رسول الله" من بنود صلح الحديبية! وصار سعد بن معاذ, وسعد بن عبادة والأنصار الأولون الذين استجابوا لرسول الله(ص) أيام ضعفه وهوانه في مكة, يُعتبرون كمن جاء ضمن وفود القبائل العربية لإعلان الطاعة للنبي(ص) في السنة العاشرة للهجرة!
فكل أولئك " مسلمون" وكلهم رأوا الرسولَ(ص), وبالتالي كلهم ذاهبون معاً إلى الجنة, وعلى المؤمن أن يقتدي بهم كلهم, وأن يترضّى عليهم.

" وكذلك الإمام الطحاوي , في عقيدته المشهورة التي أجمعَ علماء المذاهب على صحّتها ووجوب اعتقادها على كل مسلم, جعلَ حبّ الصحابة إيماناً , وبغضهم كفراً .فقال: ونحبّ أصحابَ رسول الله(ص) ولا نفرط في حب أحدٍ منهم, ولا نتبرّأ من أحدٍ منهم, ونبغض مَن يبغضهم وبغير الخير يذكرهم, ولا نذكرهم إلاّ بالخير, وحبّهم دينٌ وإيمانٌ وإحسانٌ, وبغضهم كفرٌ ونفاقٌ وطغيان"[16]

فالبراءة من معاوية ومَن على شاكلته, ستدخل المسلمَ إذن في ظلمات الكفر والنفاق , حسب الإمام الطحاوي.
والإمام الطحاوي ومَن على رأيه, يتجاهل أن ما ورد من نصوص شرعية ظاهرها الثناء على جُملة المؤمنين والمسلمين ممن صاحبوا رسول الله(ص) لا يعني أن كل فردٍ منهم على إطلاقهم هو المقصود من النص. فالنصوص تمتدح المؤمنين والمجاهدين والمهاجرين والأنصار لأفعالهم وصفاتهم . ومن المسلم به أن الثناء على المجموع لا يقتضى منه الثناء على كل فرد.[17]

المآرب الأموية من ابتداع نظرية عدالة كل الصحابة

1-   تبرير اغتصاب السلطة وبشاعة أفعال معاوية : فمعاوية طليقٌ وابن طليق, ومن المؤلفة قلوبهم. وقد اغتصب السلطة وأصبح ملكاً على دولة الإسلام, ورسمياً هو الخليفة لرسول الله(ص). وهذا غيرمعقول  ولا يُصدّق! وبكل الموازين العقلية والشرعية الإلهية والوضعية. فأبوه هو رأس الأحزاب ومرجعية الشرك في كل معاركه ضد الإسلام. وقاومَ أبو سفيان وبنوه ومَن شايعهم الإسلامَ ونبيّه بكل فنون المقاومة حتى أحيط بهم فأسلموا. وها هو ابنه معاوية يتقدم على كل السابقين له, والذين قام مجد الإسلام على أكتافهم.
وقد أنزل معاوية وحزبُه أعظمَ النكباتِ بروحية دين الإسلام ورسالة العدالة التي جاء بها محمد(ص). وبلغت الجرائم التي ارتكبت على يديه حداً عظيماً[18]. ووصلت إلى قتل الأطفال كما فعل بسر بن أرطأة, واستبيحت المدينة المنورة في وقعة الحرّة[19] أيام يزيد بن معاوية, وقتل فيها مَن بقي ممن جاهدوا مع النبي(ص) وأبناء السباقين للإسلام من أنصار الرسول(ص)[20]. ناهيك عن حروب معاوية ضد الإمام علي, وعن مذبحة كربلاء الرهيبة ومحاولة استئصال العائلة النبوية عن بكرة أبيها. وحتى الكعبة المشرفة لم تسلم منهم: فدكّوها بالمنجنيق مرتين أثناء حربهم ضد ابن الزبير وحصارهم له في مكة: مرة على يد يزيد بن معاوية[21], ومن بعده على يد عبد الملك بن مروان[22]! وصار الظلم والقهر سياسة للدولة.[23]

كل هذه الأهوال حصلت على يد قوم يُعلنون الإسلام, وهم الآن يتزعّمون دولته ويقومون بخلافة رسوله, فكيف يمكن تبرير ذلك؟
أفضل وسيلة على الإطلاق يمكن لمعاوية أن يلجأ إليها هي بلا شك هذه النظرية العجيبة التي تتحدّث عن عدالة كل الصحابة, مع تضخيم وتشويه معنى الصحابي في ذات الوقت.
فمعاوية وحزبه هم "صحابة" بالمعنى اللغوي والتقني, وبما أن كل الصحابة عدول, وكلهم في الجنة, ولن يدخل النارَ منهم أحد, فلا يوجد ما يمنع أن يكون معاوية هو الخليفة ووليّ أمر المسلمين! فهذا الثوب الفضفاض لنظرية العدالة, هو المبرر الأمثل لحكم وسلطان معاوية واغتصابه للسلطة.
وطالما أن معاوية وحزبه عدولٌ وفي الجنة, فهم بالتالي مأجورون على أعمالهم! ولولا ذلك لما قال النبي(ص) أن الصحابة كلهم نجومٌ يهتدي بهم المسلمون, كما أشاعوا.
وبالتالي فإن معاوية, كصحابيّ , هو مجتهدٌ ومأجور. ومعاوية إذن على حقٍ في حربه وسلمه, في هجومه ودفاعه, أخذه وعطائه, لأنه صحابي!


2-   التحصّن ضد النقد , ومقارعة خصوم معاوية : فهذه النظرية تمنح معاوية حصانة ضد أي نقد, ولو كان بناءً, والحصانة ضد ذمِّهِ والانتقاص من قدره, لأنه صحابي ومن العدول! فلا يجوز للمسلم أن يقدح في هذا "الصحابي" الذي صار رئيس الدولة وخليفة رسول الله(ص)؟ فمَن يفعل ذلك ستعتبره المؤسسة الرسمية زنديقاً! وليس في الدنيا خطة يمكن أن تحصّن معاوية مثل نظرية عدالة كل الصحابة. فالنظرية تؤمّن لمعاوية دفاعاً وحجّة في أي مقارعة بينه وبين خصومه, أو على الأقل المساواة بينه وبين هؤلاء الخصوم.
فلو قال عليّ وآل بيت النبي(ص) إنهم الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً, وأن الإسلام قام على أكتافهم ومعهم الأنصار الأولون السباقون, لانبرى معاوية وحزبه إلى الرد الفوري عليهم : نحن أيضاً من أصحاب محمد(ص) ونحن عدولٌ ولا يجوز علينا الكذب لأننا في الجنة ولا ندخل النار!
ولو قال عليّ وآل البيت : مَن عادانا فقد عادى الله ورسوله, يردّ معاوية وحزبه : ونحن صحابة أيضاً وقال فينا النبي(ص) " مَن آذى صحابياً فقد آذاني" .... الخ , ويختلط الحق بالباطل  والمحسن بالمسيء...

وهناك خبثٌ في الموضوع! فنجاح معاوية وحزبُه بتأصيل هذه النظرية بثوبها الفضفاض وإشاعتها بين المسلمين, تكون نتيجته أن الذين يريدون, أو يقصدون, تأييد صحابة رسول الله(ص) الحقيقيين الأبرار, سينتهي بهم المطاف, دون قصدٍ منهم, إلى الدفاع عن معاوية!
 والعكس ! فالذين يقصدون تعرية معاوية والحزب الأموي, وألاعيبهم وانحرافهم, سيجدون أنفسهم قد وُضعوا , أو صنّفوا, ضمن مَن يعادي صحابة رسول الله(ص)!
 ومعاوية هو المستفيد على الحالتين.

3-   وهناك هدفٌ أكثر أهمية وأطول أثراً. وهو خلق مرجعية دينية لعامة المسلمين, تعطي شرعية لما جرى تاريخياً. والمقصود هو جعل الصحابة كلهم, مراجع الإسلام من بعد النبي(ص). وهكذا يصبح علي بن أبي طالب , وآل بيت النبوة, في أحسن التقديرات, مجرد بضعة عشر صحابياً من جملة عشرات الآلاف من الصحابة. ولن يكون هناك أي تميز أو اعتبار خاص لهم. وعلى المسلمين أن يرجعوا إلى أي صحابيَ كان, من أجل معرفة أحكام الدين وسنة النبي(ص). وقد حرصت الحكومات الأموية والعباسية المتعاقبة على اعتماد منهاج تربويّ وتعليميّ عام يؤكد على أن الصحابة أجمعين, والخلفاءَ وأولياءهم, ومَن سار على دربهم, هم المهتدون, وهم الفرقة الناجية, وهم أهل الوفاق والاتفاق, وأن مَن سواهم شُذاذ, ومذاهبهم مبتدعة ولا أصل لها في الدين.  والمشكلة أن الترجمة العمَلية لمرجعية الصحابة أجمعين, هي أن مجموعة معينة من الصحابة الذين طالَ بهم العمر , أو كانوا صغاراً جداً في عهد النبي(ص) , هم الذين سيصبحون – حصرياً – القدوة والمفتين لعموم المسلمين. فأبو هريرة وابن عمر وابن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص وأنس بن مالك هم الذين سيصعدون إلى الصدارة, لا ينافسهم فيها سوى السياسيون الأمويون من أمثال المغيرة بن شعبة وعمرو بن العاص ومعاوية نفسه!   

أمثلة على نجاح الخطة
 يمكن تلخيص رأي كل من ابن حزم وابن تيمية في موقف معاوية على النحو التالي :
 " وامتناع معاوية من بيعة عليّ, كامتناع عليّ من بيعة أبي بكر .. لأن علياً لم يمتنع من بيعة أبي بكر من المسلمين غيرُه .. وأمّا بيعة عليّ فان جمهور الصحابة تأخروا عنها, وما تابَعَه منهم الاّ الأقلّ . وهناك أزيد من مائة ألف مسلم بالشام والعراق والحجاز, كلهم امتنع من بيعته. فهل معاوية إلاّ واحدٌ من هؤلاء في ذلك"
وأيضاً :
" لم ينكر معاوية قط فضلَ عليّ واستحقاقه الخلافة. لكن اجتهادَه أدّاه إلى أن رأى تقديم أخذ القود من قتلة عثمان على البيعة, ورأى نفسه أحق بالطلب بدم عثمان.. فلم يطلب معاوية من ذلك إلاّ ما كان له من الحق أن يطلبه.. وانما أخطأ في تقديم ذلك على البيعة فقط . فله أجرُ الاجتهاد في ذلك, ولا إثمَ عليه . فلم يُصِب معاوية في اجتهاده , ولكن قد أخبر الرسول(ص) أن لسائر المخطئين في اجتهادهم أجراً واحداً, وللمصيب أجرين....... وقطعاً فأن معاوية ومَن معه مخطئون مأجورون أجراً واحداً "[24]

وقصة المجتهد المخطئ الذي له أجر, نابعة من الحديث المنسوب للرسول (ص) , والذي رواه عمرو بن العاص بالذات " إنه سمع رسول الله (ص) يقول : إذا حَكمَ الحاكمُ , فاجتهدَ ثم أصابَ فله أجران. وإذا حَكمَ فاجتهدَ ثم أخطأ فله أجر"[25]. وإن قيام حليف معاوية الأبرز بإذاعة هذا الحديث الذي يقدّم ذخيرة مهمة لمعاوية وأنصاره يشير إلى خطةٍ إعلامية متكاملة ومدروسة تم وضعها وتطبيقها.

وقد بلغ نجاح خطة معاوية إلى حدٍ مذهل, وصل إلى درجة أن إماماً حنفياً كبيراً أصدر حكماً بالإعدام على كل مسلم "يطعن بالصحابة", بعد أن حَكمَ بإخراجه من الملة ! فقد قال السرخسي عن الصحابة " ... فمَن طعن فيهم فهو ملحدٌ منابذ للإسلام , دواؤه السيف إن لم يتب "[26]

ورغم أن ابن حزم وابن تيمية والسرخسي وأمثالهم يتمسكون بالحديث النبويّ الذي رواه البخاري " سبابُ المسلم فسوقٌ وقتاله كفر"[27] , إلاّ أنهم يحرصون على استثناء معاوية من النتيجة التي تترتب على هذا الحديث.  فلماذا لا يقال عن معاوية أنه فاسقٌ وأنه كافرٌ ؟ ألم يشهر معاوية السلاح بوجه الخليفة الشرعي, عليّ بن أبي طالب ؟ وهو لم يكتفِ بسبّ الإمام عليّ,  بل أجبرَ الخطباءَ على شتمه من على منابر المساجد. ولماذا لا يُطبّقون حديث البخاري هذا إلاّ على أعداء معاوية فقط؟ فهم يشنعون على القادحين في معاوية وحزبه, بتهمة سبّ صحابة الرسول(ص), ويقولون عنهم إنهم فاسقون وكافرون, اعتماداً على الحديث نفسه, بينما يتجاهلون سلوكَ معاوية الشائن. ولماذا يتم تجاهل حقيقة أن معاوية هو أول مَن استنّ سنّة اللعن القبيح, على المنابر, بحق عليّ وآل البيت ؟ وموضوع أمر معاوية بشتم الامام عليّ على منابر المساجد حقيقة معروفة , ذكرها كل المؤرخين, ويمكن لإثباتها الرجوع حتى إلى كتب الحديث.
والجواب على كل هذه التساؤلات المشروعة, يكمن في نظرية عدالة كل الصحابة التي وفرت الحماية لمعاوية بوصفه " صحابياً ".
*****

ومن أجل الدفاع عن معاوية وتبييض صفحته تم تجاهل الحديث النبوي الصحيح, حين سئل النبي(ص) :
" يا رسول الله! أنؤآخذ بما عملنا في الجاهلية؟
قال : مَن أحسنَ في الإسلام لم يؤآخذ بما عمِل في الجاهلية, ومَن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر"[28]

وسلوك معاوية وجماعته في الإسلام كان من أسوأ ما يمكن, كما هو معروف. ولذلك كان ينبغي مؤآخذته على ماضيه في الجاهلية بالإضافة إلى أفعاله في الإسلام, معاً, حسب نص الحديث.
ولكن نظرية عدالة كل الصحابة أدّت إلى تعطيل تطبيق الحديث النبوي الصحيح بحق معاوية.






نقض نظرية عدالة كل الصحابة من السنة والقرآن

أولاً: أحاديث النبي حول الصحابة من بعده

عن سهل بن سعد " سمعتُ النبي(ص) يقول:  أنا فرطكم على الحوض, مَن ورده شرب ومَن شرب منه لم يظمأ بعده أبداً. ليَرَدُ عليّ أقوام أعرفهم ويعرفونني , ثم يُحال بيني وبينهم .. وزاد أبو سعيد الخدري عليه : قال إنهم مني فيقال إنك لا تدري ما بدّلوا بعدك. فأقول سُحقاً سُحقاً لمَن بدّل بعدي"[29]

"عن النبي(ص) قال : أنا على حوضي أنتظر من يرد عليّ. فيؤخذ بناس من دوني فأقول : أمّتي!
 فيقال :  لاتدري . مَشوا على القهقرى"
"قال النبي(ص) : أنا فرطكم على الحوض. ليُرفعنّ إليّ رجالٌ منكم, حتى إذا أهويتُ لأناولهم, اختلجوا دوني. فأقول : أي ربّ ! أصحابي!
يقول : لا تدري ما أحدثوا بعدك"[30]

عن أنس بن مالك " أن النبي(ص) قال : ليردنّ عليّ الحوض رجالٌ ممن صاحبني, حتى إذا رأيتهم ورفعوا إليّ, اختلجوا دوني, فلأقولنّ : أي ربّ! أصيحابي , أصيحابي, فليقالنّ لي : انّك لا تدري ما أحدثوا بعدك"[31]

عن سهل " سمعت النبي(ص) يقول : أنا فرطكم على الحوض, مَن ورد شرب , ومَن شرب لم يظمأ أبداً . وليردنّ عليّ أقوامٌ أعرفهم ويعرفوني , ثم يحال بيني وبينهم" وزاد عليه أبو سعيد الخدري " فيقول : إنّهم منّي , فيقال : إنّك لا تدري ما عملوا بعدك. فأقول : سحقا سحقا لمن بدّل بعدي"[32]

عن ابن عباس أن النبي (ص) قال " سيُجاءُ بناس من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال.
فلأقولنّ : أصحابي!
فليقالنّ لي : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك.
فلأقولنّ كما قال العبد الصالح : وكنتُ عليهم شهيداً ما دمتُ فيهم. فلما توفيتني كنتَ أنتَ الرقيب عليهم وأنتَ على كل شيئ شهيد. فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكبيم.
فيقال : إن هؤلاء لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم منذ فارقتهم"[33]

عن أسماء بنت أبي بكر " قال رسول الله(ص) : إنّي على الحوض حتى أنظر مَن يرد عليّ منكم. وسيؤخذ أناسٌ دوني فأقول : يا ربّ! منّي ومن أمّتي . فيقال : أما شعرتَ ما عملوا بعدك؟ والله! ما برحوا بعدك يرجعون على أعقابهم "
وعن عائشة عن النبي(ص) " إنّي على الحوض , أنتظر مَن يرد عليّ منكم. فوالله! ليقتطعنّ دوني رجال, فلأقولنّ : أي ربّ! منّي ومن أمتي , فيقول : إنك لا تدري ما عملوا بعدك, ما زالوا يرجعون على أعقابهم"[34]

وهذه المجموعة من الأحاديث النبوية ليست بحاجة إلى أي شرح أو تعليق, فهي تنطق عن نفسها بدون أدنى لبس.

وأما بشأن قول النبي(ص) "لا تسبّوا أحداً من أصحابي, فإن أحدكم لو أنفق مثل أحُدٍ ذهباً, ما أدركَ مدّ أحدهم ولا نصيفه" , فهو صحيحٌ أيضاً, ولكن لا بد من الإلمام بخلفيته. فالحديث الكامل كما ورد في صحيح مسلم هو على النحو التالي " كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء , فسَبّه خالدٌ, فقال رسول الله(ص) : لا تسبّوا أحداً من أصحابي, فإن أحدكم لو أنفق مثل أحُدٍ ذهباً, ما أدركَ مدّ أحدهم ولا نصيفه"[35].
إذن يقوم الرسول(ص) هنا بتوبيخ خالد بن الوليد لما تعرّض لعبد الرحمن وسبّه, فردّ عليه الرسول(ص) كما في الحديث. فالكلام موجّه لخالد , وقد جاء في سياق نهيه(ص) له عن شتم عبد الرحمن أو الاعتداء عليه. وهذا أمرٌ طبيعي يليق بخصال رسول الله(ص) وتحريمه للبغي على الناس والعدوان عليهم.
كما أن ظاهر كلام الرسول(ص) يدل على أن خالداً ليس صحابياً حقيقياً بمفهومه(ص). ويبدو أن رسول الله(ص) أراد أن يُذكر خالداً بأن هناك فروقاً مهمة بين " أصحابه " : فلا تجوز مساواة رجل من المهاجرين الأولين كعبد الرحمن, برجل أسلمَ قبيل فتح مكة , كخالد. أراد رسول الله(ص) أن يعلم خالدٌ أن منظومة الفضل في الإسلام أساسها السّبق والإيمان, وليس أي شيئ آخر.    




ومثالٌ من السيرة النبوية

وبالإضافة إلى هذه النصوص القاطعة من الأحاديث النبوية الصحيحة, يمكن الإشارة إلى حالات عديدة من السيرة النبوية حصلت فيها حوادث تثبت بطلان هذه النظرية. ومن أبرز تلك الحوادث ما حصل من حاطب بن أبي بلتعة. فهذا الرجل كان صحابياً وبامتياز. فهو من المهاجرين الأولين, وهو قد شهدَ بدراً مع رسول الله, وهو تنطبق عليه صفات " الصحابي" وبجدارة. هو لم يكن من الذين أعلنوا إسلامهم كرهاً تحت تهديد السيف, وهو ليس من الطلقاء أو المؤلفة قلوبهم, ولم يكن من المنافقين الذين يضمرون البغض لرسول الله(ص) في دخيلة صدورهم.
إلاّ أنّ الرجل حنّ لانتمائه العشائري, ومالَ إلى قبيلته : قريش. لقد رجحت عنده رابطة الدم التي تشدّه لقريش على رابطة العقيدة التي تربطه بالرسول(ص).
فعندما عزم الرسول (ص) على السير إلى مكة لفتحها, وأراد أن يكون تحركه مُباغتاً قدر الإمكان بحيث لا تدري قريش بتحركه إلاّ بعد فوات الأوان, قرر حاطب بن أبي بلتعة خيانة رسول الله(ص) والمسلمين, وإبلاغ قريش بخطة الرسول(ص) من أجل أن يستعدوا جيدا لمواجهته. وفيما يلي ما رواه البخاري :
" عن عليّ رضي الله عنه قال : بعثني رسول الله(ص) وأبا مرثد والزبير, وكلنا فارس. قال انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها امرأة من المشركين معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين.
فأدركناها تسير على بعير لها حيث قال رسول الله(ص).
قلنا : الكتاب ؟
فقالت : ما معنا كتاب.
فأنخناها فالتمسنا فلم نرَ كتاباً. فقلنا : ما كذب رسول الله(ص)! لتخرجنّ الكتاب أو لنجرّدنّك!
فلما رأت الجد أهوت إلى حجزتها وهي محتجزة بكساء. فأخرجته. فانطلقنا به إلى رسول الله(ص).
فقال عمر : يا رسول الله: قد خان الله ورسوله والمؤمنين. فدعني فلأضرب عنقه!
فقال النبي(ص) : ما حملكَ على ما صنعتَ؟
قال حاطب : والله ما بي إلاّ أن أكون مؤمناً بالله ورسوله(ص). أردتُ أن يكون لي عند القوم يدٌ يدفع الله بها عن أهلي ومالي! وليس أحدٌ من أصحابك إلاّ له هناك من عشيرته مَن يدفع الله به عن أهله وماله.
فقال النبي (ص) : صدق . ولا تقولوا له إلاّ خيراً"[36]

إذن ببساطة اعترف الرجل بذنبه , وفسّرَ موقفه للنبي(ص) بأنه خافَ على أهله وماله وأراد أن يكون له معروفٌ عند قريش. وقال له إن بقية أصحابه من المهاجرين لهم مَن يدافع عنهم في قريش وأنه أراد أن يكون مثلهم.

والملاحظ أن موقف الرسول(ص) كان متسامحاً جداً معه, وتفهّم أنه تعرّض لضعفٍ إنساني قادَهُ إلى تلك الخيانة. فالرسول (ص) إذن تعاملَ معه كأيّ رجل في الدنيا : يمكن أن يستزلّه الشيطان فيرتكب الكبائر.
ولا بد من الإضافة بأن قيام الرسول(ص) بالعفو عنه, ليس وساماً له لكي يعلّقه على صدره! فالعفو بحدّ ذاته إثباتٌ للجريمة. والعفو يُحسَب في سجل حُسن أخلاق الرسول(ص) وعطفه على الناس ورحمته بأمته, ولا يُحسب في سجل إنجازات حاطب بن أبي بلتعة!

مثالٌ آخر

وحتى صحابيّ حقيقيّ من الذين كانوا سبّاقين للإسلام في مكة, لم يكن معصوماً من ارتكاب كبيرة شرب الخمر. فقد روى الإمام البخاري أن عمر بن الخطاب استعملَ قدامة بن مظعون على البحرين , فشربَ الخمرَ حتى سَكِر, وأن الشهود شهدوا عليه بمن فيهم زوجته, فأقام عمر عليه الحد وجَلدَه.[37]

وقدامة بن مظعون كان ترتيبه الرابع عشر بين أول مَن آمن بدعوة النبي(ص) في مكة حسبما ذكر ابن اسحاق, ومع ذلك لم يتورع عن شرب الخمر بلا عذر , وهو في منصب قيادة.



ثانيا: من القرآن الكريم

وفي القرآن الكريم العديد من الآيات التي تتعرض لموضوع أصحاب الرسول (ص). وفيما يلي بعضها :
-         " محمدٌ رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم. تراهم ركعاً سجّداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً. سيماهم في وجوههم من أثر السجود. ذلك مَثلهم في التوراة ومَثلهم في الإنجيل. كزرعٍ أخرجَ شطئه فأزره فاستغلظ فاستوى على سوقه. يعجب الزرّاع ليغيظ بهم الكفار. وَعَدَ الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً"[38]
فهذه الآية الكريمة كلها مدحٌ لرسول الله(ص) والصحابة الذين معه, الذين هم – على الوصف الذي ذكره الله تعالى – من الشدّة على الكفار ومن الرحمة على بعضهم البعض. وتمضي الآية الكريمة في مدح هؤلاء وذكر أوصافهم حتى تنتهي بوعده سبحانه وتعالى بالمغفرة والأجر العظيم,  ليس لكل الصحابة المذكورين , ولكن للبعض منهم : الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
فكلمة " منهم " التي ذكرها الله تعالى دلّت على التبعيض, وأوحت أن البعض من الصحابة انتفت منهم صفة الإيمان والعمل الصالح. وإن المروّجين لنظرية عدالة كل الصحابة دائماً يركّزون على الجزء الأول من الآية , ويتجاهلون " منهم".
-         " وما محمدٌ إلاّ رسولٌ قد خلت من قبله الرسل. أفئن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم. ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرّ اللهَ شيئاً وسيجزي الله الشاكرين "[39]
وهذه الآية نزلت يوم أحُد لتلومَ أولئك الصحابة الذين فرّوا من ميدان المعركة وهمّوا بالرجوع إلى قومهم المشركين حين ظنّوا أن الرسول(ص) قتل. فإذن حتى الصحابة الأولون ليسوا محصنين من الارتداد والانقلاب على الأعقاب.
-         " ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق, ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطالَ عليهم الأمد فقسَت قلوبهم وكثيرٌ منهم فاسقون "[40]
وفي الآية لومٌ لأولئك المؤمنين الذين لم تخشع قلوبهم, فقسَت مثل قلوب أهل الكتاب.
-         " يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض. أرَضيتم من الحياة الدنيا من الاخرة . فما متاع الحياة الدنيا في الاخرة إلاّ قليل. إلاّّ تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضرّوه شيئاً والله على كل شيء قدير"[41]
وهذه الآية صريحة في أن من الصحابة مَن تثاقلوا عن الجهاد واختاروا الركون إلى الحياة الدنيا, رغم علمهم انها متاع قليل, حتى استوجبوا توبيخ الله سبحانه وتهديده لهم بالعذاب الأليم واستبدال غيرهم من المؤمنين الصادقين بهم.

وهناك العديد من الآيات الأخرى التي تتعرض لأصحاب الرسول(ص) وتشير إليهم كبشرٍ تجوز عليهم المعاصي والخطايا, ويمكن أن تصدر عنهم أعمالٌ منكرة, ويختلفون فيما بينهم بدرجة الإيمان, ويتفاضلون بالإعمال.

وأما بالنسبة إلى قوله تعالى " لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة", فقد نزلت الآية بخصوص مناسبة في يوم الحديبية , حينما انبعثت إشاعةٍ في صفوف المسلمين مفادها أن مندوبَ رسول الله(ص) إلى قريش,وهو عثمان بن عفان, قد قتل . ولما بلغ هذا الخبر رسولَ الله(ص) قرر أن لا يتهاون بشأنه. فقتلُ الرسُل غدرٌ وفجورٌ لم تألفه العرب من قبل. فأعلن الرسول (ص) " لا نبرحُ حتى نناجز القومَ " ونادى أصحابَه وأخذ منهم ما أصبح يعرف ببيعة الرضوان والتي كانت تجديداً لعهد الولاء والطاعة له فيما يأمرهم به. وظاهرُ الآية هو التعبير عن الرضا الإلهي عن الموقف المحدد الذي اتخذه المؤمنون الذين استجابوا لدعوة الرسول(ص) تلك. فالله تعالى رضي عن هؤلاء المؤمنين في تلك المناسبة بذاتها " إذ يبايعونك تحت الشجرة" , وليس في الآية ما يشير إلى كون ذلك الرضا الإلهي هو في مطلق الأحوال والظروف, ولا إلى اتساعه ليشمل كل الصحابة, بمن فيهم الذين لم يكونوا موجودين في ذلك اليوم , أو دخلوا الإسلام بعده. 




 نموذجان من "الصحابة" الذين يروي عنهم الإمام البخاري في صحيحه

المغيرة بن شعبة الثقفي

روى ابن الأثير في ترجمته أنه أسلمَ عام الخندق وشهدَ الحُديبية. وقيل أنه أحصنَ ألفَ امرأةٍ في الإسلام. ولاّه عمر بن الخطاب البصرة, ولم يزل عليها حتى شُهِدَ عليه بالزنا فعزله. استعمله معاوية على الكوفة إلى أن مات عام 50 . هو أول مَن رشى في الإسلام, فقد أعطى يرفأ, حاجبَ عمر, شيئاً حتى أدخله إلى دار عمر[42]

وروى ابن كثير " وقال الإمام مالك : كان المغيرة بن شعبة رجلاً نكاحاً للنساء. وكان يقول : صاحب الواحدة إن حاضت حاضَ معها, وإن مرضت مرض معها, وصاحب الثنتين بين نارين يشتعلان.
قال : فكان ينكح أربعاً ويطلقهن جميعاً !
وقال غيره : تزوج ثمانين امرأة, وقيل : ثلاثمائة امرأة, وقيل : أحصنَ ألفَ امرأة"[43]

  وفيما يلي نص, من البلاذري,  يوضح تفاصيل حادثة الزنا التي أشار إليها ابن الأثير في عهد عمر:
" إن المغيرة جعلَ يختلفُ إلى امرأةٍ من بني هلال يقال لها أم جميل بنت محجن بن الأفقم بن شعيثة بن الهزم. وقد كان لها زوجٌ من ثقيف يقال له الحجاج بن عتيك. فبلغ ذلك أبا بكرة بن مسروح مولى النبي صلى الله عليه وسلم من مولدي ثقيف, وشبل بن معبد بن عبيد البجلي, ونافع بن الحارث بن كلدة الثقفي وزياد بن عبيد, فرصدوه. حتى إذا دخلَ عليها هجموا عليه فإذا هما عريانان وهو متبطنها.
 فخرجوا حتى أتوا عمرَ بن الخطاب فشهدوا عنده بما رأوا.
 فقال عمر لأبي موسى الأشعري: إني أريد أبعثك إلى بلد قد عشش فيه الشيطان.
قال : فأعنّي بعدةٍ من الأنصار.
فبعث معه البراءَ بن مالك وعمران بن الحصين وأبا نجيد الخزاعي وعوف بن وهب الخزاعي. وولاه البصرة وأمره بإشخاص المغيرة. فأشخصَه بعد قدومه بثلاث.
فلما صار إلى عمر جمع بينه وبين الشهود.
 فقال نافع بن الحارث : رأيته على بطن المرأة يحتفز عليها , ورأيته يُدخِلُ ما معه ويُخرجه , كالمَيل في المَكحَلة. ثم شهد شبل بن معبد على شهادته ثم أبو بكرة.
 ثم أقبل زيادٌ رابعاً. فلما نظر إليه عمر قال : أما إني أرى وجه رجلٍ أرجو أن لا يُرجَمَ رجلٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على يده ولا يُخزى بشهادته.
 وكان المغيرة قدم من مصر فأسلم وشهد الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
 فقال زياد : رأيتُ منظراً قبيحاً وسمعتُ نفساً عالياً, وما أدري أخالطها أم لا. ويقال : لم يشهد بشيء .
فأمر عمر بالثلاثة فجلدوا.
فقال شبل : أتجلد شهود الحق وتبطل الحد؟
فلما جلد أبو بكرة قال : أشهد أن المغيرة زانٍ !
فقال عمر : حُدّوه.
فقال : على ان جعلتها شهادة. فارجم صاحبك.
فحلف أبو بكرة لا يكلم زياداً, وكان أخاه لأمه سمية. ثم إن عمر ردهم إلى مصرهم"[44]


وكان المغيرة هذا هو أول مَن أشار على معاوية باستخلاف يزيد ( طبعاً لم يكن هذا الأمر غائباً عن ذهن معاوية , ولكن المغيرة كان أول مَن دعاه لذلك علناً ). وفي أواخر عمره , وبسبب معرفته بنفسية معاوية , رضي لنفسه أن يكون سيدَ المنافقين وأعظمَ المتزلّفين . روى صاحب الإمامة والسياسة:
 " لمّا استقامت الأمور لمعاوية استعمل على الكوفة المغيرة بن شعبة. ثم همّ أن يعزله ويولّي سعيد بن العاص. فلمّا بلغ ذلك المغيرة قدِم الشامَ على معاوية.
 فقال : يا أمير المؤمنين قد علمتَ ما لقيت هذه الأمة من الفتنة والاختلاف. وفي عنقك الموت. وأنا أخاف إن حَدَث بكَ حدثٌ أن يقعَ الناسُ في مثل ما وقعوا فيه بعد قتل عثمان. فاجعل للناس بعدك عَلماً يفزعون إليه. واجعل ذلك يزيدَ ابنك" [45]

وأثناء عمله كوالٍ لمعاوية , كان المغيرة هذا متخصصاً في شتم الإمام عليّ من على المنبر بشكل دائم. وهناك عدد هائل من الأدلة على ذلك في كافة المصادر, منها مثلاً :
" نالَ المغيرة بن شعبة من عليّ.
فقال زيد بن أرقم: قد علمتَ أن رسول الله(ص) كان ينهى عن سبّ الموتى, فلمَ تسُبّ علياً؟ "[46]
وذكر الحاكم " كان المغيرة بن شعبة ينالُ في خطبته من عليّ, وأقامَ خطباءَ ينالون منه"[47]

فهكذا كان سلوك المغيرة بن شعبة في الإسلام.

 وليس هناك فرق كبير بين سلوكه هذا , الانتهازي الوصولي, وبين سلوكه قبل الإسلام.
فحتى الطريقة التي دخل بها المغيرة في الإسلام تنمّ عن النفعيّة والمصلحيّة. فقد كان المغيرة بن شعبة قد خرج هو وقومٌ من بني مالك في عمل إلى الاسكندرية. وأثناء عودتهم, قام بالغدر برفاقه فقتلهم وهم نائمون ونهب أموالهم وسلاحهم وفرّ به.[48]
وأدّى سلوك المغيرة, القاتل الغادر , إلى مشكلة كبيرة بين قوم المغيرة من ثقيف, وبين بني مالك, انتهت سِلماً حين وافقت عشيرته على دفع الديّة عن الذين قتلهم المغيرة. وأمّا المغيرة, المطلوب دمه, والمنبوذ من قومه, فوجد الحل المناسب لمستقبله :  اللحاق بمحمد(ص) وإعلان " إسلامه ". وفعلاً فقد وصل المغيرة إلى المدينة مشهراً إسلامه, وقبلَ ذلك منه الرسول(ص) , لأنه كان يقبل من الناس ظاهرَهم, على أساس أن الإسلام يجبّ ما قبله, إن خلصَت النيّة. ولما عرض المغيرة بن شعبة على الرسول(ص) أن يعطيه الأموال التي نهبها من الذين قتلهم, رفض بكل تأكيد وقال له " أما إسلامك فنقبله, ولا آخذ من أموالهم شيئاً, لأن هذا غدر , ولا خير في الغدر"[49]

وقد رُوي عن الإمام الحسن بن عليّ ما يفيد بأن آل البيت كانوا يعتبرون المغيرة أتفه وأسفه من أن يثير حزنهم أو استغرابهم لمواقفه الخسيسة تجاه عليّ بن أبي طالب. فقد قال له لما وَصَله سبّه لأبيه بمحضر معاوية وابن العاص وعتبة :
" وأما أنتَ يا مغيرة, فلم تكن بخليقٍ أن تقع في هذا وشبهه. وإنما مثلك مثل البعوضة إذ قالت للنخلة : استمسكي فإني طائرة عنكِ! فقالت النخلة : فهل علمتُ بكِ واقعة عليّ فأعلم بكِ طائرة عني؟!
والله ما نشعر بعداوتكَ إيانا, ولا اغتممنا إذ علمنا بها! ولا يشقّ علينا كلامك.
وإن حدّ الله في الزنا لثابتٌ عليك, ولقد درأ عمرُ عنك حقاً الله سائله عنه!
ولقد سألتَ رسولَ الله (ص) : هل ينظر الرجلُ إلى المرأة, يريد أن يتزوجها؟ فقال : ( لا بأس بذلكَ يا مغيرة ما لم ينوِ الزنا ), لعلمه أنك زانٍ  "[50]

وبرغم ذلك كله, فإن الإمام البخاري لم يمانع في رواية أحاديث النبي(ص) عن المغيرة بن شعبة,
لأنه صحابي.

سمرة بن جندب الفزاري

جاء في ترجمته في أسد الغابة " وقدِمت به أمّه إلى المدينة بعد موت أبيه فتزوجها رجلٌ من الأنصار اسمه مري بن شيبان, فكان في حجره إلى أن صار غلاماً. فهو من حلفاء الأنصار. فكان الرسول(ص)  يستعرضه من ضمن غلمانهم.
.....  أن زياد بن أبيه كان يستخلفه على البصرة حينما يذهب إلى الكوفة, ويستخلفه على الكوفة حينما يذهب للبصرة. فكان ستة أشهر هنا ومثلها هناك. وتوفي في البصرة سنة 59 وذلك عندما سقط في قِدر مملوءة ماءً حاراً كان يتعالج بالقعود عليها من كزاز شديد أصابه فسقط فمات فيها. وكان شديداً على الخوارج."[51]

إذن كان هذا "الصحابي" الذي يعترف به الإمام البخاري[52], موظفاً رخيصاً يشتريه بنو أمية ويعينوه "نائباً" عن طاغيتهم في العراق ليقوم بمهماته كلما غاب . وبالتالي كان شريكهم في سياستهم التي عبّر عنها زياد بن أبيه "... فوالله لآخذنّ البريء بالسقيم, والمطيعَ بالعاصي , والمقبل بالمدبر, حتى تلين لي قناتكم. وحتى يقول القائل : انجُ سعد فقد قتل سعيد.... "[53]
وكان سيّدُه , زياد بن أبيه, أولَ مَن طبّق سياسة العقوبات الجماعية على الناس, حين رأى كثرة الخارجين على حكمه, فقرر معاقبة أهل وعشيرة أي شخصٍ يشترك في معارضة الحكم الأموي ! قال لأهل البصرة :
" إني أعطي الله عهداً لا يخرج عليّ خارجيّ بعدها فأدَعُ من حيّهِ وقبيلته أحداً "[54]
ولم يتردد سمرة هذا في تنفيذ سياسة سيّدِهِ بحماس شديد. قال ابن خلدون " وأكثرَ سمرة بن جندب اليتامى بالبصرة. يقال : قتل ثمانية آلاف"[55]

وأما على المستوى الشخصي, فقد روى الإمام مسلم في صحيحه أن سمرة بن جندب كان يبيع الخمر :
" بلغ عمرَ أن سمرة باعَ خمراً.
فقال : قاتلَ اللهُ سمرة. ألم يعلم أن رسول الله(ص) قال : لعن الله اليهود. حُرّمَت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها"[56]

وسمرة هذا عَدلٌ عند الإمام البخاري, لأنه صحابي, ولا بأس برواية كلام النبي(ص) عنه[57].

هذه النظرية بدعة متأخرة لم يسمع بها الصحابة أنفسهم

ومن المؤكد أن فكرة عدالة كل الصحابة وتنزيههم عن النقائص والمثالب لم تكن معروفةً على الإطلاق في أوساط الصحابة أنفسهم. فلم يكونوا يعتبرون أن من العيب الطعن بمن يرتكب المعاصي منهم. وكانت الأمور كثيراً ما تصل بينهم إلى حد التشاتم والاتهامات وتبادل الألفاظ الجارحة والمهينة. وكان ذلك يحصل في أعلى مستوياتهم.
والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى.

ولذا يمكن الجزم بأن تبنّى نظرية عدالة كل الصحابة وترويجها حصل في فترةٍ زمنيةٍ لاحقة, وعلى يد أناسِ كان لهم مآرب سياسية من وراء ذلك.

نتيجة

"الصحبة" كلمة عامة تشمل كل مَن صحب النبي(ص) أو سمع منه أو رآه. وهي بالتالي تشمل المؤمن والمنافق, والعادل والفاسق, والكريم واللئيم, والبر والفاجر....
فالصحبة بحد ذاتها ليست عاصمة تلبس صاحبَها ثوبَ العدالة بالضرورة, بل إن الصحابة تختلف منازلهم وتتفاوت درجاتهم بالأعمال.

ففيهم العدول الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه, ورسخت أقدامهم في العقيدة, وجرى الإيمان في عروقهم, وأخلصوا لله ولرسوله فكانوا في أعلى درجات الكمال. وهؤلاء هم أصحاب الرسول(ص) الحقيقيون, العدول , والقدوة. وقد وصفهم الإمام علي مرةً فقال :
" لقد رأيتُ أصحابَ محمد(ص), فما أرى أحداً يشبههم. لقد كانوا يُصبحون شعثاً غبراً, وقد باتوا سجّداً وقياماً , يراوحون بين جباههم وخدودهم, ويقفون على مثل الجمر مِن ذكر معادهم. كأنّ بين أعينهم رُكبُ المِعزى من طول سجودهم. إذا ذكِر الله هَمَلت أعينهم حتى تبلّ جيوبهم, ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف خوفاً من العقاب , ورجاءً للثواب"[58]
ومن هؤلاء الذين تحملوا الأذى والعذاب في سبيل الله, والذين أمنوا برسول الله(ص) وهو ضعيفٌ في مكة, فصدقوه ونصروه وحاربوا معه, والأبطال الذين قدموا أرواحهم ودماءهم من أجل دينهم.  
وكل النصوص الشرعية , من آياتٍ قرآنية وأحاديث نبوية, التي فيها مدحٌ وثناءٌ على المهاجرين والأنصار والصحابة , تتعلّق بالتحديد بهذه الفئة من أصحاب رسول الله(ص).  

وفيهم آخرون ممَن شذ وخالفَ, وانحرفَ وأساء.

وبكل المقاييس العقلية والشرعية, لا يمكن أبداً اعتبار طلقاء قريش الذين أسلموا يوم فتح مكة, أو الأشخاص من أبناء القبائل العربية الذين قدموا على النبي(ص) في عام الوفود , وهم عشرات الآلآف ,ليعلنوا الطاعة والخضوع للنبي المنتصر, أو الأعراب ممن هم حول المدينة, أو غيرهم ممن رأى النبي(ص) مرة أو وجّه إليه سؤالا عارضاً, من الصحابة, إلاّ بالمعنى الواسع جداً الموضح أعلاه. ولا يجوز القول بعدالتهم جميعاً.
وأيضاً لا يجوز القدح فيهم كلهم. فلا شك أنه كان بين هؤلاء مَن حَسُن إسلامه وثبت إيمانه.

والفيصل في ذلك كله , هو الأعمال والأفعال, والمواقف والسلوك.

ومن الضروري أن تناقش أفعال كل شخص بموضوعية , ودون ترهيب ولا أحكام مسبقة, وأن يوزن كل واحد من الصحابة بميزان عمله. 

والله هو العالم بدواخل النفوس وحقيقة القلوب.









[1] للمحامي الأردني أحمد حسين يعقوب كتابٌ تام بعنوان " نظرية عدالة الصحابة "
[2] كتاب " المجروحين " لابن حبان ج1 ص34
[3] صحيح مسلم, كتاب فضائل الصحابة ص 958.
[4] سورة الفتح , آية 18
[5] مقدمة كتاب الإصابة لابن حجر العسقلاني ص7
[6] أسد الغابة لابن الأثير ج1 ص12
[7] عدّد ابن اسحق في سيرة ابن هشام ج2 ص140-148 أسماء 29 رجلاً من المنافقين من أهل يثرب . وهذا عدد قليل جداً بالقياس إلى مدى انتشار ظاهرة النفاق والمنافقين كما عبر عنها القرآن مراراً. وهؤلاء الذين سمّاهم ابن اسحق كانوا هم الذين انفضح نفاقهم ونزلت فيهم آيات في مناسبات مشهورة. وهو قال عن بعضهم إنه تاب. وأما أضعافهم ممن أضمروا النفاق فلم يكن له من سبيل ليعرفهم.
[8] صحيح البخاري باب ما ينهى من دعوة الجاهلية ج4ص  223
[9] كتاب المغازي للواقدي ج3 ص 1044
[10] مسند الإمام أحمد ج4 ص181 . ومعروفة سيرة بسرٍ هذا في استباحته مدينة الرسول(ص) بأمرٍ معاوية, وقتله الأنصار فيها.
[11] مقدمة كتاب الإصابة لابن حجر ص17
[12] أسد الغابة لابن الأثير ج1 ص3
[13]  "الصحبة والصحابة" لحسن المالكي , ص213, نقلاً عن كتاب "صحابة رسول الله " للكبيسي.
[14] من كتاب " نظرية عدالة الصحابة" لأحمد حسين يعقوب ص21, نقلا عن كتاب الكبائر للذهبي.
[15] وقد اعترف شيخ الإسلام ابن تيمية, وهو المتخصص في إعلاء شأن الصحابة وفي نقض فضائل علي بن أبي طالب, بأن هذا الحديث لا حجّية فيه . فقد قال عنه"... فهذا الحديث ضعيفٌ، ضعفه أهل الحديث، قال البزار : هذا حديث لا يصح عن رسول الله (ص), وليس هو في كتب الحديث المعتمدة..." ورد ذلك في منهاج السنة ج2 ص265
[16] من كتاب " أقباسٌ من مناقب أبي هريرة " ص24 نقلاً عن شرح العقيدة الطحاوية .
[17]  فلو قال قائلٌ إن شعباً من الشعوب يتصف بالأمانة , مثلاً, فلا يعني ذلك أن كل أفراد ذلك الشعب هم أمناء لا يرتكبون السرقة.
[18] يمكن مراجعة تفاصيل الممارسات الأموية في " النزاع والتخاصم " للمقريزي , على سبيل المثال.
[19] ورد في سنن الدارمي ج1 ص44 أنه " لم يؤذن في مسجد النبي(ص) ثلاثاً , ولم يُقم" أثناء مذبحة الحرة. وذكر ابن سعد في الطبقات الكبرى (ج3 ص68) " وبعث يزيد إلى أهل المدينة عشرين ألفاً, فأباحوا المدينة ثلاثاً يصنعون ما شاؤوا "
[20] روى السيوطي في تاريخ الخلفاء ص260 " وفي سنة 74 سار الحجاج إلى المدينة, وأخذ يتعنت على أهلها , ويستخفّ ببقايا مَن فيها من صحابة رسول الله(ص), وختم في أعناقهم وأيديهم , ويذلهم بذلك , كأنس وجابر بن عبد الله وسهل بن سعد الساعدي , فإنا لله وإنا إليه راجعون"
[21] ورد في تاريخ خليفة بن خياط ص193  تفاصيل حرق الكعبة على يد جيش يزيد. وذكر ابن حجر في الإصابة ج4 ص82 خبر احتراق الكعبة على يد جيش يزيد.
[22] ورد في السنن الكبرى للبيهقي ج3 ص122 أن جيش عبد الملك بقيادة الحجاج قد نصب 40 منجنيقاً على الكعبة.  وروى السيوطي في تاريخ الخلفاء ص257 بعض تفاصيل رمي جيش عبد الملك مكة بالمنجنيق.
[23] وصف ابن خلدون في تاريخه ج3 ص8 سياسة والي معاوية في العراق , زياد بن أبيه , على النحو التالي "كان أول مَن شدّدَ أمر السلطان, وشيّدَ المُلكَ. فجرّدَ السيفَ وأخذ بالظنة وعاقبَ على الشبهة"
[24] يمكن مراجعة الفصل في الملل لابن حزم , ومنهاج السنة لابن تيمية.
[25] صحيح البخاري ج9 ص133 باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ.
[26]  أصول السرخسي ج2 ص134
[27] صحيح البخاري كتاب الفتن ج9 ص63
[28] صحيح مسلم , كتاب الايمان, ص63
[29] صحيح البخاري ج9 كتاب الفتن ص59
[30] هذان الحديثان من صحيح البخاري كتاب الفتن ج9 ص58
[31] صحيح مسلم كتاب الفضائل ص 880
[32] صحيح مسلم كتاب الفضائل ص876
[33] مسند أحمد ج1 ص253
[34] هذا الحديث والذي قبله عن أسماء من صحيح مسلم كتاب الفضائل ص 877
[35] صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة ص 958. وفي رواية مغازي الواقدي ج3 ص880 أن الرسول(ص) قال لخالد " ذروا لي أصحابي". وأما الذهبي في سير أعلام النبلاء ج1 ص82 فقد جاء في روايته أن النبي(ص) قال " دعوا لي أصحابي أو أصيحابي".
[36] صحيح البخاري باب فضل من شهد بدرا ج5 ص99
[37] التاريخ الصغير للبخاري ج1 ص68. وأيضاً الإصابة لابن حجر ج5 ص324. وورد بشأن قدامة في سير اعلام النبلاء للذهبي ج1 ص162 " لم يُحَدّ  بدريٌ في الخمر سواه".
[38] سورة الفتح آية 29
[39] سورة آل عمران آية 144
[40] سورة الحديد آية 16
[41] سورة التوبة آية 38-39
[42] أسد الغابة لابن الأثير ج4  ص 407. ومن الصعب التسليم بأن المغيرة قد "أحصن ألف امرأة" فربما لا تسعفه قدراته الجسدية, ولكن هذه الروايات, وإن كان بها مبالغة, تشير بلا شك إلى مدى انغماسه في شؤون النساء.
وأكد ابن حجر في الإصابة ج6 ص157 أن المغيرة أول من رشا في الإسلام عن طريق عمامة أعطاها لحاجب عمر.
[43] السيرة النبوية لابن كثير ج4 ص665
[44] فتوح البلدان للبلاذري ج2 ص 424. وأكد ابن الأثير في أسد الغابة ج2 ص215 ما رواه البلاذري أن زياداً كان هو الذي أنقذ المغيرة من الحد الشرعي. فقد ذكر أثناء ترجمة زياد بن أبيه, أن زياداً كان أحد الشهود على المغيرة بن شعبة مع أبي بكرة ونافع وشبل بن معبد, فلم يقطع في الشهادة , فحدّهم عمر ولم يحدّه.
 وذكر خليفة بن خياط في تاريخه( ص93 ) حادثة زنى المغيرة بن شعبة وشهادة الشهود عليه, وقيام عمر بعزله عن منصبه.
 وكذلك أورد ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ج12 ص236-237 حادثة زنى المغيرة بالتفصيل, نقلا عن كل من الطبري في تاريخه والأصفهاني في كتاب الأغاني , وفيها أن المغيرة أخذ يبكي بعد أن شهد عليه أول ثلاثة ثم رجا زيادا أن لا يشهد مثلهم. فقام زياد فشهد أنه رآه متبطّتها ولكنه " لم يرَ الميل في المكحلة".
 وذكر الطبري في تاريخه تفاصيل حادثة زنى المغيرة في ج3 ص170 , وفيها أن زياداً قال إنه رأى " قدَمين مخضوبتين تخفقان وإستين مكشوفتين" ولكنه لم يرَ الميل في المكحلة.
وروى البيهقي في السنن الكبرى ج10 ص148 أنه بعد أن شهد أبو بكرة وصاحباه بالزنا على المغيرة بن شعبة جاء زياد فشهد " رأيتُ ابتهاراً ومجلساً سيئا" فقال له عمر " هل رأيتَ المرود دخلَ المكحلة؟" فلما أجابه زياد بالنفي, أمر عمر بالثلاثة فجلدوا.
وروى الحاكم النيسابوري في المستدرك على الصحيحيحن ج3 ص449 أن عمر عزل المغيرة بعد أن شهد عليه أبو بكرة وصاحباه بالزنا مع أم جميل وهو محصن , وأن زياداً قال في شهادته " رأيتُهما في لحاف وسمعتُ نفساً عالياً ولا أدري ما وراء ذلك"
وروى الذهبي في سير أعلام النبلاء ج3 ص27 حادثة زنا المغيرة بالتفصيل. وكذلك ابن عساكر في تاريخ دمشق ج60 ص33.
[45] الإمامة والسياسة لابن قتيبة ج1 ص 187
[46] مسند الإمام أحمد ج4 ص369
[47] المستدرك على الصحيحين ج3 ص450
[48] كتاب المغازي للواقدي ج2 ص596
[49] سير أعلام النبلاء للذهبي ج3 ص25
[50] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج6 ص294. وقد روى الطبراني في المعجم الكبير (ج3 ص72) تفاصيل كلام قاس قاله الحسن لمعاوية وابن العاص والمغيرة وأبي الأعور لما نالوا من أبيه.
[51] أسد الغابة لابن الأثير ج2  ص 355  . وقريبٌ من ذلك ورد في الإصابة لابن حجر ج3 ص150
[52] وقد ذكر الإمام البخاري نفسه في التاريخ الصغير ج1 ص132 أن زياد بن أبيه كان يستخلف سمرة على البصرة ستة أشهر وعلى الكوفة ستة أشهر.
[53] تاريخ دمشق لابن عساكر ج19 ص180 وهذا جزء من خطبة زياد بن أبيه في البصرة. وقد أورد الجاحظ في البيان والتبيين ج2 ص40 – 41 نص الخطبة الكاملة لزياد بن أبيه والتي تعرف ب " البتراء" لأنه لم يحمد الله فيها ولم يصلّ على النبي.
[54] تاريخ اليعقوبي ج2 ص232
[55] تاريخ ابن خلدون ج3 ص10
[56] صحيح مسلم , كتاب المساقاة والمزارعة, باب تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام ص596
[57] وأصرّ ابن حزم في " الاحكام" ج2 ص204 على أن كلاً من قدامة بن مظعون , والمغيرة بن شعبة وسمرة بن جندب هم " رضوان الله عليهم, أفاضل أئمة عدول " على الرغم من كل أفعالهم.
[58] نهج البلاغة, بشرح محمد عبده, ج1 ص138