مقولة " الأئمة من قريش "



بعض النصوص

هناك عددٌ كبير من الأحاديث " الصحيحة " التي تمجّد قبيلة قريش وتفرض على المسلمين ضرورة التسليم بشرفها والتبعية لها, والأهم من ذلك أنها تجعل من مسألة انفراد قبيلة قريش بالخلافة والحكم دون غيرها من بني البشر, إرادة إلهية عبّر عنها رسول الله(ص) وصرّحَ بها .
وفيما يلي بعض الأمثلة :
روى عبد الله بن عمر أن النبي(ص) قال:
" لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان"[1]  

وقال عمرو بن العاص " سمعتُ رسول الله(ص) يقول : قريشٌ ولاة الناس في الخير والشر إلى يوم القيامة"[2]

وقال عثمان بن عفان موصياً ابنه عمرو " يا بني : إن وليتَ من أمر الناس شيئا فأكرم قريشاً. فإني سمعت رسول الله(ص) يقول : مَن أهانَ قريشاً أهانه الله"[3]

وأدلى معاوية بن أبي سفيان بدلوه :
 " كان محمد بن جبير بن مطعم يحدّث أنه بلغَ معاويةَ وهو عنده في وفدٍ من قريش أن عبد الله بن عمرو بن العاص يحدّث أنه سيكون ملكٌ من قحطان.
 فغضبَ معاوية. فقام فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال : بلغني أن رجالاً منكم يتحدثون أحاديث ليست في كتاب الله ولا تؤثر عن رسول الله(ص). فأولئك جهّالكم فإيّاكم والأماني التي تضل أهلها.فإني سمعت رسول الله (ص) يقول : إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلاّ كبّه الله على وجهه, ما أقاموا الدين"[4]

هذا الفيضان من " الأحاديث " التي تتصف بالعنصرية الصارخة تفرض على الباحث أن يتساءل عن السر الكامن من ورائها. وليس هناك أي جدوى من محاولة التشكيك في صحة هذه "الأحاديث" اعتماداً على سندها أو سلسلة رواتها, لأنها تبلغ من الكثرة حداً يجعل من الصعب التشكيك في صحّة نسبتها إلى قائليها من الصحابة.
فلا بد من الرجوع إلى بدايات دعوة الرسول(ص) لمزيد من إلقاء الضوء على خلفياتها.


الفترة المكية من دعوة الرسول

أمضى رسول الله(ص) ثلاثة عشر عاماً منذ أن نزل عليه الوحي يدعو قومَه – قريش – ليلاً و نهاراً بلا كلل ولا ملل, ليس له من همّ سوى هدايتهم وإخراجهم من الضلال. يلين لهم في القول ويناقشهم بالحجّة والتي هي أحسن. كان يقول لهم أنّ الأصنام لا تضر ولا تنفع, وأنها رجسٌ من عمل الشيطان, وأنّ الله واحدٌ أحَد وليس كمثله شيء, وأن الزنا والربا والظلم والقتل من الموبقات , وأن الناس سواسية كأسنان المشط . كان يخاطب فيهم فطرة الإنسان السليمة ويحدّثهم عن العدل والإنصاف وعن محبّة الإنسان لأخيه الإنسان.
ورسول الله(ص) ليس كغيره من البشر : فهو قد اصطفاه الله وحباه كل الخصال التي تجعله ذا قدرة فذّة على الهدي والإقناع والتأثير . فهو الهادي الأعظم في تاريخ البشريّة وهو الذي يشعّ منه نور النبوّة والصدق. وباختصار كان الرسول(ص) قادراً على التأثير حتى على العتاة الطغاة حين يخاطب فيهم بذرة الخير التي زرعها الله في كل إنسان .

 ولكن ماذا كانت النتيجة ؟
 للأسف, الفشل الذّريع كان نصيب رسول الله(ص). فلم تؤمن قريش. وضاعت كل جهود الرسول(ص) هباءً منثوراً بسبب هؤلاء القوم الجفاة, الذين رفضوه ولفظوه وحاربوه وقاوموه.
 كانت قبيلة قريش تضم آلافاً من الرجال الذين جُبلوا على الكفر وأخلاق الكبر ومعاندة صوت الحق. طيلة ثلاثة عشر عاماً كان الرسول(ص) يلاحقهم في منتدياتهم وبيوتهم وأسواقهم ومواسمهم ليقرأ عليهم القرآن ويدعوهم إلى الله. كان يسمع منهم ويجيب على أسئلتهم ويحاول أن يتقرّب إليهم لعلّهم تلين قلوبهم أو تصحو عقولهم, بلا جدوى! كان الرسول(ص) يتحمّل استهزاءهم به وطعنهم في شخصه, بل وكان يتحمّل أذاهم وشتمهم له وتسفيههم لدعوته وعدوانهم عليه. فمثلاً :
" بينا النبي(ص) ساجدٌ وحوله ناسٌ من قريش, جاء عقبة بن أبي معيط بسلى جزورٍ فقذفه على ظهر النبي(ص) فلم يرفع رأسه. فجاءت فاطمة عليها السلام فأخذته من ظهره ودَعَت على مَن صنع "[5]

 ولكن غالبية أبناء قبيلة قريش أثبتوا أنهم أكثر البشر عُتوّاً في الكفر وأشدّ الناس تصميماً على البغي . فلم يكتفوا برفض النبيّ(ص) ودعوته, بل إنهم أعلنوها حرباً عليه : منعوا كل الناس من الاستماع له وصبّوا حِمَمَ غضبهم على كل مَن آمن به من الضعفاء والمظلومين. والاستقواء على المساكين ليس أمراً مشرّفا أبداً ولا تقبله أخلاق الأباة , ولكن قريشاً فعلت ذلك وأكثر , مما يؤشّر على مدى ما بلغه هؤلاء القوم من انحطاط.
وشنّوا عليه حرباً نفسيّة فظيعة , فأشاعوا عنه أسوأ الأقوال بين العرب . وقالوا عنه أنه ساحرٌ كذّاب وأنه مجنون وأنه من أرذل القوم , وأرسلوا الوفود إلى قبائل العرب للتشنيع على الرسول(ص) .

 ذكر ابن سعد في الطبقات الكبرى عن رسول الله(ص) أنه:
 " كان يوافي المواسم كل عام يتبع الحاج في منازلهم في المواسم بعكاظ ومجنة وذي المجاز يدعوهم إلى أن يمنعوه حتى يبلغ رسالات ربه ولهم الجنة , فلا يجد أحداً ينصره ولا يجيبه حتى إنه ليسأل عن القبائل ومنازلها قبيلة قبيلة ويقول : يا أيها الناس : قولوا لا إله إلاّ الله تفلحوا وتملكوا بها العرب وتذل لكم العجم . وإذا آمنتم كنتم ملوكاً في الجنة . وأبو لهب وراءه يقول : لا تطيعوه فإنه صابئ كاذب.
 فيردون على رسول الله(ص) أقبح الرد ويؤذونه ويقولون: أسرتك وعشيرتك أعلم بك حيث لم يتبعوك . ويكلمونه ويجادلونه ويكلمهم ويدعوهم إلى الله ويقول : اللهم لو شئت لم يكونوا هكذا .
 فكان مَن سُمي لنا من القبائل الذين أتاهم رسول الله(ص) ودعاهم وعرض نفسه عليهم : بنو عامر بن صعصعة, ومحارب بن خصفة , وفزارة وغسان ومرة وحنيفة وسليم وعبس وبنو نضر وبنو البكاء وكندة وكلب والحارث بن كعب وعذرة والحضارمة. فلم يستجب منهم أحد[6]

وكانت حصيلة جهد الرسول(ص) في ثلاثة عشر عاماً هي أن آمن به بضع عشرات فقط من قريش ! وهي حصيلة لا تكاد تذكر بالقياس إلى الجهد العظيم الذي بذله الرسول(ص). ذكر ابن اسحق أن جميع مَن هاجر إلى الحبشة من المسلمين كانوا 83 رجلاً[7] . وإذا تم النظر فقط إلى المؤمنين من ذوي الأصل القرشي, واستثناء المستضعفين من المؤمنين, الموالي والحلفاء والذين ينحدرون من أصولٍ متواضعة غير قرشية, واستثناء آل الرسول(ص) من بني هاشم والمطلب, فإنه لا يمكن إحصاء أسماء أكثر من 79 شخصاً ممن آمنوا بدعوة محمد(ص) خلال 13 عاماً من جهوده المتواصلة في مكة[8] !
وذلك يعني أن رسول الله(ص) كان ينجح في المعدل في هداية حوالي 6 رجالٍ فقط من أبناء قريش في السنة الواحدة!
 لقد كان الرسول(ص) يخاطب قلوباً ميتة ونفوساً مريضة لا رجاء فيها.

 قال له عبد الله بن أبي أمية " يا محمد ! والله لا أؤمن بكَ أبداً حتى تتخذ إلى السماء سُلماً ثم ترقى فيه وأنا أنظر إليك حتى تأتيها ثم تأتي معك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول. وأيم الله لو فعلتَ ذلك لظننتُ أني لا أصدقك"[9]
وما قاله ابن أبي أمية هذا هو خير تعبيرٍ عن حقيقة الموقف القرشي من رسول الله(ص).

وهذا ما دفع النبي(ص) إلى الدعاء على قريش. فقد جاء في صحيح البخاري عن الرسول(ص) أنه قال لمّا آذاه جلاوزة قريش:
 " ... فقال : اللهم عليك بقريش, اللهم عليك بقريش, اللهم عليك بقريش! لأبي جهل بن هشام, وعتبة بن ربيعة, وشيبة بن ربيعة, والوليد بن عتبة , وأبي بن خلف وعقبة بن أبي معيط."[10]

توجّهٌ مشبوه

ويمكن ملاحظة نوع من محاولة التخفيف من وطأة تلك الممارسات القرشية ضد رسول الله(ص) , والتمويه على شخصيات مرتكبيها , لدى المؤرخين وأصحاب السير والإخباريين. فما هو متاحٌ من أخبار الفترة المكية من دعوة الرسول(ص) قليلٌ للغاية بالقياس إلى طول تلك المدة ( 13 عاماً ), وبشكلٍ لافت. كما أن الأخبار المتاحة حول الشخصيات التي كانت تؤذي رسول الله(ص) تتركز على بعض الأسماء المشهورة من الذين نزلت فيهم آيات قرآنية أو شاعت أخبار أذاهم للنبي(ص) في الآفاق, أو كانوا من كبار قريش الذين قتلوا يوم بدر أو أمر النبي(ص) بإعدامهم.
ومن الواضح أن هناك أيدٍ اجتهدت وسَعَت من أجل محاولة التهوين مما تعرّضَ له النبي(ص) من اعتداءات على أيدي أشخاصٍ أصبحوا " مسلمين " فيما بعد, يوم فتح مكة. فكأن هناك مَن أراد أن يطبّق مبدأ " عفا الله عما مضى " أو " الإسلام يجبّ ما قبله " على هؤلاء الطلقاء, لأنهم أصبحوا " خلفاء " لرسول الله(ص) و " قادة " لأمة الإسلام. وكأن البعض حاول أن يخفف من وطأة تلك المفارقة الرهيبة : إذ كيف يمكن للمسلم أن يقبل بتولي هؤلاء الطلقاء خلافة رسول الله(ص) وقيادة دينه إذا علمَ بما كان هؤلاء بالذات وآباؤهم يوقعون من أذى على رسول الله(ص) نفسه, وبما كانوا يقابلونه من عداوة ؟ ولذلك كان الحل هو محاولة إخفاء ذلك الماضي الأسود لشخصيات من أمثال أبي سفيان أو عمرو بن العاص أوالحكم بن أبي العاص وغيرهم من زعماء البطون القرشية.
ولذلك ربما يكون صحيحاً القول أن ما هو متاحٌ الآن في المصادر من أخبارٍ عن الفترة المكية وما كانت تفعله قريشٌ برسول الله(ص) إن هو إلاّ غيضٌ من فيض مما كان يحصل بالفعل.
 فلا يوجد وصفٌ كافٍ لفترة السنوات الثلاثة الطويلة , مثلاً , التي قضاها بنو هاشم محاصَرين في شعب أبي طالب. كيف كانوا يعيشون؟ وما تفاصيل حياتهم اليومية ؟ وماذا كانوا يقولون لرسول الله(ص)؟ ليس هناك إلاّ القليل حول هذا الأمر.
وأين هي السبعون بيتاً من الشعر التي قالها عمرو بن العاص في هجاء رسول الله(ص)؟ بل وأين هي القصائد الكثيرة جداً التي كانت قريشٌ تؤلفها في هجائه وتذيعها بين العرب؟ ومَن هم ناظموها؟

ولو استطاع الحكام الأمويون أن يقنعوا الرواة وأصحاب السيرة بأن يحذفوا كل أخبار الفترة المكية , جملة وتفصيلاً, ويمحوها من الكتب , لفعلوا ! ولمّا كان ذلك متعذراً, أسفرت ضغوطهم وإغراءاتهم عن النجاح في "تهذيب " أخبار تلك الفترة بما يراعي سمعة آبائهم وأجدادهم الذين كانوا أبطال تلك المرحلة.
 

استنتاج

ولذلك كله, فالأرجح أنّ تكون الأحاديث المنسوبة إلى الرسول (ص) والتي فيها تمجيدٌ لقريش أو مدحٌ لها هي مكذوبة على لسانه, اخترعها عملاء وأنصار الحكم الأموي المغتصب للسلطة من أجل إعطاء شرعيّة لحكم تلك الأسرة ذات الماضي القاتم تجاه نبي الإسلام.

بالنظر إلى ذلك السجلّ الفظيع من العداوة والأذى الذي ألحقته قريشٌ به , كيف يمكن تصوّر أن يخصّ الرسول(ص) قريشاً , دون غيرها , بشرف المجد والحكم ؟! وهل يجوز تصوّر أن رسول الله(ص) يمكن أن يخصّ قريشاً, وبهذا الشكل العنصري الصارخ, بأهم وظيفة دنيوية يوكلها الله لعباده, وهي القيادة والحكم؟

هل يمكن لعاقل أن يصدّق أن رسول الله (ص) يقول للمسلمين " قدّموا قريشاً ولا تقدموها, وتعلموا منها ولا تعلموها"[11] ؟

أليسَ حديث أبي هريرة أن النبي(ص) قال: " نساء قريش خير نساءٍ ركبنَ الإبل"[12]  مصمماً ومقصوداً به أن تنال هند بنت عتبة , أم معاوية, نصيبها من التقريظ والمدح؟ لم تكن هناك أي طريقة يمكن بواسطتها إيصال المديح لأم الحاكم, وهي مرتكبة الجريمة الفظيعة بحق عم النبي(ص) حمزة يوم أحُد, سوى بوضع حديثٍ كهذا.

أليسَ الحديث المنسوب للرسول(ص) " مَن أهانَ قريشاً أهانه الله " مُصَمماً من أجل إقناع المسلمين بالخضوع للحكام القرشيين ومنع الرعية حتى من شرعية انتقادهم ومعارضتهم لأن ذلك " إهانةٌ لله " ؟

*****
إن ما رواه المباركفوري على لسان رسول الله (ص) في أعقاب معركة بدر هو خير ما يعبر عن حقيقة مشاعره (ص) تجاه قبيلة قريش :
" بئس العشيرة كنتم لنبيكم , كذبتموني وصدقني الناس, وخذلتموني ونصرني الناس, وأخرجتموني وآواني الناس"[13]


ملاحظة أخيرة

 لقد كانت سيرة ومواقف الخليفتين أبي بكر وعمر تعبيراً مباشراً منهما عن نظرية الأئمة من قريش. وتجلّى ذلك في اجتماع السقيفة.  فكان منطق أبي بكر في ذلك الاجتماع يستند إلى أن العرب لا تدين إلاّ لقريش. فقد قال أبو بكر في السقيفة "... ولن يُعرف هذا الأمر إلاّ لهذا الحيّ من قريش , هم أوسط العرب نسَباً وداراً...."[14] . وكذلك قال عمر في نفس الاجتماع بأن قريشاً أولى بالرسول(ص) وبميراثه لأنها قبيلته.
وهذه الأفكار هي تعبيرٌ جليّ عن قيم العصبية والقبلية القرشية, وهي ذاتها التي تبناها الحكام الأمويون من بعدهما, وألبسوها بالصبغة الدينية عن طريق التأثير على أصدقائهم من الرواة.

ومن الملاحظ ان أبا بكر وعمر لم ينسبا ذلك القول إلى النبي(ص) , بل قالا إن العرب لا تدين إلاّ لقريش. وهذا يؤشّر إلى أن مقولة " الأئمة من قريش " إنما نسبت للنبي(ص) في فترة لاحقة, وإلاّ  لكانا احتجّا بها وذكرَاها في معرض محاججتهما للأنصار[15]

*****

ومن المفيد استعراض الحوار التالي الذي فيه عبّر معاوية بن أبي سفيان عن عقيدته بشأن مُلك قريشٍ بصورةٍ جليّة, عندما كان والياً على الشام, أثناء سجاله مع المنفيين من الكوفة أيام عثمان بن عفان.
 فلما قرّعهم معاوية وامتدح قبيلة قريش متعالياً عليهم قائلاً لهم " بلغني أنكم ذممتم قريشاً, ونقمتم على الولاة فيها! ولولا قريش لكنتم أذلة"
 ردّ عليه صعصعة بن صوحان " وأما قريش, فإنها لم تكن أكثرَ العرب ولا أمنعها في الجاهلية وإن غيرها من العرب لأكثر منها كان وأمنع"
فأجابه معاوية "... إن قريشاً لم تعز في جاهلية ولا إسلام إلاّ بالله وحده. لم تكن بأكثر العرب ولا أشدها, ولكنهم كانوا أكرمهم أحساباً وأمحضهم أنساباً وأكملهم مروءة. ولم يمتنعوا في الجاهلية – والناس يأكل بعضهم بعضاً – إلاّ بالله, فبوّأهم حَرَماً آمنا يتخطف الناس من حولهم. هل تعرفون عرباً او عجماً, أو سوداً أو حمراً, إلاّ وقد أصابهم الدهر في بلدهم وحرمهم , إلاّ ما كان من قريش. فإنه لم يردهم أحدٌ من الناس بكيدٍ إلاّ جعل الله خدّه الأسفل, حتى أراد الله تعالى أن يستنقذ مَن أكرمه باتباع دينه من هوان الدنيا, وسوء مرد الاخرة. فارتضى لذلك خيرَ خلقه, ثم ارتضى له أصحاباً, وكان خيارهم قريشاً. ثم بنى هذا الملك عليهم, وجعلَ هذه الخلافة فيهم, فلا يصلح الأمر إلاّ بهم..."[16]

فالمشكلة التي أثارها هؤلاء المتمردون بنظر معاوية تكمن في عقوق العرب تجاه قريش , القبيلة ذات العز والمجد في الجاهلية وفي الإسلام  والتي أدت إلى حياةٍ جديدة للعرب, ووحّدتهم بالإسلام وأعطتهم الملك! فالإسلام كله يقرؤه معاوية بوصفه تطوراً لقبيلة لقريش, قبيلة الله, كاصطفاءٍ من الله لقريش.
فاللهُ والدينُ والنبيُ والإسلامُ كلها بنظر معاوية تتماهى مع قريش التي بدونها لن يكون باقي العرب شيئاً يذكر. وهكذا فإن دور الرسول(ص) وجهاده البطولي يتواريان خلف مخططات المشيئة الإلهية التي اصطفت قريشاً. كما يجري تغييب المضمون الأخلاقي والروحي للنبوّة.

*****

والمعضلة التي تواجه معاوية , وأنصار الحكم الأموي, وكل المُصَدّقين بمقولة " الأئمة من قريش" هي : ما دام النسَب هو الأساس, وما دام الرسول(ص) يقدّم قبيلته بسبب رابطة الدم, فمن البديهي إذن أن تكون عائلة النبي(ص) هي الأولى من غيرها , والأجدر بشرف الحكم والقيادة. فآل النبي(ص) هم طبعاً أقرب إليه من بطون قريش الكثيرة. وكما أن العرب لا يجوز لها أن تنافس "قبيلة" النبي(ص) , لا يجوز للبطون القرشية أن تنافس عائلته.
ذلك هو المنطق المجرّد. ناهيك عن خِصال وصفات آل النبي(ص) ودورهم الكبير في حماية النبي(ص) ونجاح دعوته.

هذه المفارقة الصارخة لم يجد لها الحكام الأمويون حلاً طوال تاريخهم. ولذلك قام أصدقاؤهم بالتأكيد على أن " الأئمة من قريش " هي إرادة الله , وكفى.



[1] صحيح البخاري باب مناقب قريش (ج4 ص 218)
[2] سنن الترمذي (ج3 ص342)
[3] مسند أحمد (ج1 ص64). وكذلك روى الحاكم في المستدرك على الصحيحين (ج4 ص74)
[4] صحيح البخاري باب مناقب قريش ج4 ص 218
[5] صحيح البخاري (ج5 ص57 ) باب ما لقي النبي(ص) وأصحابه من المشركين بمكة.
[6] الطبقات الكبرى لابن سعد (ج1 ص 216)
[7] السيرة النبوية لابن هشام (ج1 ص247)
[8] يمكن على سبيل المثال مراجعة السيرة النبوية لابن هشام.
[9]السيرة النبوية لابن هشام (ج1 ص217 ) وكذلك البداية والنهاية لابن كثير (ج3 ص67)
[10] صحيح البخاري باب الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة (ج4 ص 53). وفي تتمة الحديث " قال عبد الله : فلقد رأيتهم في قليب بدر قتلى. قال أبو اسحق : ونسيت السابع . وقال يوسف بن اسحق عن أبي اسحق : أمية بن خلف. وقال شعبة : أمية أو أبيّ, والصحيح أمية" .  وليس مفهوماً لماذا نسي أبو اسحاق هذا الشخصَ السابع؟ ربما لأنه أبو سفيان.
 وورد هذا الحديث أيضا في صحيح مسلم (ص 694 )ولكن مع ذكر اسم أمية بن خلف بدلا من أبيّ.
[11] كتاب المسند للإمام الشافعي (ص278).
[12] صحيح مسلم باب من فضائل نساء قريش (ص 954)
[13] سيرة رسول الله(ص) الرحيق المختوم, للمباركفوري ( ص249). وقريب من ذلك ورد في سيرة ابن هشام (ج2 ص255).
[14] صحيح البخاري كتاب المحاربين من أهل الكفر و الردة (ج8 ص211)
[15] ومن الطريف حقاً ما رواه ابن حزم في كتاب " الاحكام " ص148 من أن الأنصار بجموعهم كانوا قد " نسوا " حديث " الأئمة من قريش " يوم السقيفة رغم أنه قد رواه أحدهم وهو أنس بن مالك!
[16] النص من شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (ج2 ص131). وقريب من ذلك ورد في تاريخ الطبري.