المقدمة



في سنة 41 للهجرة تولى معاوية على مقاليد الحكم في دولة الاسلام. انفرد معاوية بالحكم وأعلن نفسه "خليفة" بعد أن انتصر في حروبه الطويلة التي خاضها ضد آل بيت النبي (ص) ممثلين في علي بن ابي طالب ومن بعده ابنه الحسن. كانت حرباً أهلية طاحنة دارت رحاها بين المسلمين الذين انقسموا ما بين معسكر عراقيّ بقيادة عليّ ومعسكر شاميّ بقيادة معاوية وذلك في اعقاب مقتل الخليفة عثمان في ظروف مأساوية.
والمفارقة كانت أن معاوية بالذات كان هو وعائلته الضيقة , ابوه وأمه , من أشرس المعادين للنبيّ (ص) والمعارضين لدعوته في مكة, وبقي كذلك الى أن استسلم يوم فتح مكة , فصار من " الطلقاء" . أي أنه بدل أن يكون مصيره الخزي والعار لتاريخه الملطخ في الاسلام , او على اقل تقدير التهميش والإقصاء, يصبح الان الزعيم الاعلى لدولة الاسلام و "خليفة " نبيّها ! وحصل ذلك بعد أن خاض حرباً هائلة لا تبقي ولا تذر ضد اقرب الناس الى النبي (ص) وألصقهم به خلال مسيرته الطويلة : علي بن ابي طالب.
وسرعان ما بدأ معاوية العمل لتحويل دولة الاسلام من النظام الذي اقامه الخلفاء الثلاثة الاوائل , ومن بعدهم عليّ, وتأسيس سلالة حاكمة ملكية / امبراطورية تشبه غيرها من الامبراطوريات التي كانت قائمة في الارض : ملوكٌ يتوارثون الحكم والجاه والسلطان , ورعيّة عليها الطاعة والخنوع. لقد كان نظام الخلفاء يتصف بالبساطة والتواضع والقرب من الناس . وكان الخليفة بمعيشته واحواله الشخصية لا يختلف كثيرا عن رعيته : يعيش بينهم ويأكل مثلهم ويمشي في الاسواق على رجليه ويخطب على المنبر بلا حرسٍ ولا هيلمان. كان الخلفاء يعتبرون انفسهم امتدادا لنظام النبوّة الذي أقامه رسول الله (ص) وعايشوه منذ بداياته الى ان انتصر. جاء معاوية ليلغي ذلك كله ويؤسس لمملكةٍ تشبه ممالك الرومان البيزنطيين والفرس الساسانيين , ولكنها عربية. فبدل كسرى او قيصر صار هناك ملكٌ عربيّ يُسمّى" أمير المؤمنين " يرث الحكم عن أبيه ويورّثه لابنه من بعده. تلك هي دولة بني أمية.
ولكن معاوية , ومن بعده المؤسس الثاني للدولة الأموية عبد الملك بن مروان, كان أذكى وأبعدَ نظراً من أن يؤسس حكمه على القوة الغاشمة وحدها. كان معاوية , ومن بعده عبد الملك , يدرك أنه من الضروري لأجل ثبات نظام حكمه واستمراره أن يتغطى بلباسٍ من الشرعية الدينية يجعله أكثر قبولاً من العامة الذين يدينون بالاسلام الذي جاء به النبي(ص) ويحكمُ معاوية الان باسمه. وكان من المهم جداً تقويض الأسس الشرعية والاخلاقه لعدوّه عليّ الذي حاربه حتى انتزع الحكم منه. وكانت مهمة معاوية صعبة للغاية. فعليّ كان يتمتع بخصال ومزايا اسلامية هائلة وكثيرة وله في مآثر الاسلام النصيب الأعظم الى جانب النبي (ص). فماذا سيقول عنه ؟! لم يكن سبّ عليّ وشتمه (وقد فعل معاوية ذلك) كافياً , لأنه فعلٌ فاضحٌ ومكشوف. كان لا بد من الوصول , بشكل ما , الى نوع من الأسس الدينية تضفي الشرعية على نظام معاوية وتنتقص من شخص عليّ في ذات الوقت. ولذلك بدأ العمل لاختلاق مقولاتٍ من نوع " الأئمة من قريش " و ترويج "أحاديث" تحث على الطاعة المطلقة للأمراء والرؤساء وترسيخ أفكارٍ بين عامة المسلمين حول "المشيئة الالهية" والقضاء والقدر ,,, وغير ذلك من أفكار هي محور هذا الكتاب.
ولكن كيف يتسلل معاوية الى الدين ؟ كيف يمكنه أن يقنع عامة المسلمين بتلك الأفكار التي تخدم غاياته وأهدافه باعتبارها جزءاً من الاسلام ؟ ليس لمعاوية من المؤهلات الدينية والشرعية ما يجعله في ذلك الموقع. انه بحاجة الى غيره من "أهل الدين" الذين يمكن أن يقبلهم الناس ويستمعوا لهم. لجأ معاوية, ومن بعده عبد الملك واولاده, الى رواة الحديث وكبار الفقهاء من أجل ذلك. فتم تقريبهم ومنحهم مكانة مرموقة في دولة بني أمية وإعلاء شأنهم بين العامة باعتبارهم " أهل الدين " والحريصين على كتاب الله وسنة رسوله. وتلك كانت حال ابي هريرة في عهد معاوية , وحال الزهري في زمن عبد الملك , وحال الأوزاعي في زمان هشام. وأما من عارض وقاوم رغبة الحاكمين من العلماء والفقهاء كان مصيره الموت والاستئصال , مثل سعيد بن جبير الذي قتله الحجاج بكل قسوة.
والنتيجة كانت النجاح في صياغة " إسلامٍ " مهادنٍ لبني أمية ومفصلاً على مقاسهم. وبحكم قوة الدولة وجبروتها صار هذا "الاسلام" مذهب الاغلبية من المسلمين. وصار مذهب " اهل السنة والجماعة " مُبتلياً بمجموعة افكار ومقولاتٍ ذات جذورٍ أموية لصقت به ولم يتخلص منها الى يومنا هذا.


كتبها : حسام عبد الكريم في دبي يوم 8-12-2107