أحاديث الطاعة العمياء
هناك عددٌ
كبير من الأحاديث " الصحيحة " التي رواها البخاري
ومسلم وغيرهما, والتي ببساطة تطالب المؤمنين بطاعة السلطان
– بدون قيود, ومهما كانت الظروف . ومن ذلك:
عن عبادة بن الصامت قال : " دعانا
النبي(ص) فبايعناه. فقال فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا و
وعسرنا ويسرنا, وأثرة علينا, وأن لا ننازعَ الأمرَ أهلَه, إلاّ أن تروا
كفراً
بواحاً
عندكم من الله فيه برهان"[1]
وأيضاً
" مَن
كره مِن
أميره شيئاً
فليصبر عليه, فإنه ليس أحدٌ من الناس خرج من السلطان شبراً , فمات عليه, إلاّ مات ميتة جاهلية"[4]
وروى أبو
هريرة أن النبي(ص) قال " مَن أطاعني فقد أطاع الله. ومَن يعصِني فقد عصى الله. ومن يطع الأميرَ فقد أطاعني, ومَن يعصِ الأميرَ فقد عصاني"[5]
وروى البخاري عن
عبد الله " قال لنا رسول الله(ص) : إنكم سترونَ بعدي أثرة وأموراً
تنكرونها. قالوا : فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال : أدّوا إليهم حقهم وسَلوا
الله حقكم"[6]
وأيضا "يكون بعدي أئمة لا يهتدون
بهداي, ولا يستنّون بسنّتي. وسيقوم فيهم رجالٌ قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس. قال : قلتُ : كيف أصنعُ يا رسول الله إن أدركتُ ذلك؟
وجاء في سنن الترمذي
" دخلنا على أنس
بن مالك فشكونا إليه ما نلقى من الحجاج, فقال : ما من عام إلاّ والذي بعده شرٌ منه حتى
تلقوا ربكم. سمعتُ هذا
من نبيكم صلى الله عليه وسلم"[8]
وروى أنس بن
مالك أيضاً " نهانا كبراؤنا من أصحاب رسول الله(ص) قال : لا تسبوا
أمراءكم ولا تغشوهم ولا تبغضوهم. واتقوا الله واصبروا فإن الأمر قريب"
[9]
معنى هذه الأحاديث
المسلم مطلوبٌ
منه أن لا ينازع السلاطين, مهما صدر منهم من بغي وظلمٍ وفساد, إلاّ إذا رأى الكفرَ البُواح!
وبما أنه
لا يمكن تصوّر أن يأتي حاكمٌ
لبلادٍ إسلامية ليقول علناً عن نفسه بأنه كافر, فالنتيجة
تكون أن على الفرد المسلم طاعة الحاكم على
الإطلاق.
والمطلوب من
المسلم أن لا يثور ويتمردَ, مهما حصل, وأن يكتفي بالدعاء إلى الله أن يهدي الحكام
إلى الحق.
والمسلم المثالي
هو المطيع للحاكم, الخاضع لأمره, المخلص له.
وعلى المسلم الصبر
, لا أكثر, في مواجهة ما يراه من غَصبٍ للحقوق وظلمٍ للعباد.
وعلى المسلم أن
يكون مقتنعاً بأن الزمان الذي يعيش فيه هو بالتأكيد أفضل من الزمان الذي سيأتي ,
وبالتالي ينبغي أن يكون سعيداً لذلك, وأن لا ينظر إلى ما يراه من فساد الحاكمين,
لأن ما سيأتي في قادم الأيام سيكون أسوأ بكثير.
وطبعاً كانت هذه
" الأحاديث " ذخيرة مهمة لكل مَن شاءَ أن يُنظّر لمهادنة الحكام
والتبعية لهم.
فقد روى الشيباني " وعن جماعةٍ من الصحابة رضوان
الله عليهم قالوا : إذا عَدلَ السلطان فعلى الرعية الشكر. وإذا جارَ فعلى الرعية الصبر, وعلى السلطان الوزر"[10]
وبالتالي كان
موقف فقهاء السلطة وفتواهم للرعية هو " ... والسمع والطاعة لأولي الأمر كان مَن كانوا, برّهم وفاجرهم. فالسنة أن تصلّي معهم ركعتين وتدين
بأنها تامة لا يكن في صدركَ شكّ. ومَن خرج على إمام من أئمة المسلمين وقد كان الناس
اجتمعوا عليه وأقرّوا له بالخلافة بأي وجهٍ كان, بالرضى أو بالغلبة, فقد شقّ هذا الخارج عصا
المسلمين وخالف الآثار عن رسول الله. فان مات الخارج عليه, مات ميتة جاهليّة. ولا يحلّ قتال السلطان ولا الخروج عليه لأحدٍ من الناس. فمَن فعل ذلك فهو مبتدعٌ على غير السنة والطريق"
فمن اغتصب الحكم, بالقهر والغلبة, أو بأي وسيلة أخرى, أصبحَ حاكماً شرعياً على
المسلمين طاعته, وبإخلاصٍ, مهما فعلَ وعمِل ما دام يُظهر الإسلام.
وقال شيخ الإسلام ابن
تيمية[11] :
" أهل السنة
يخبرون بالواقع، ويأمرون
بالواجب، فيشهدون
بما وقع، ويأمرون
بما أمر الله ورسوله، فيقولون
هؤلاء هم الذين تولوا، وكان
لهم سلطان وقدرة، يقدرون بها على مقاصد الولاية ، من
إقامة الحدود ، وقسم الأموال ، وتولية الولاية ، وجهاد العدوّ، وإقامة الحج
والأعياد ، والجُمَع وغير ذلك من مقاصد الولاية .
ويقولون
: إن الواحد من هؤلاء ونوابهم وغيرهم لا يجوز أن يطاع في معصية الله تعالى –
بل يُشارَكُ
فيما يفعله من طاعة الله ، فيُغزَى معه الكفار، ويُصلى معه الجمعة ، والعيدان ويُحَجّ
معه، ويُعاوَنُ في
إقامة الحدود ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأمثال ذلك .
فيعاونون على البر والتقوى ولا يعاونون على
الإثم والعدوان ....
ومن
المعلوم أن الناس لا يصلحون إلا بولاة ، وأنه لو تولى مَن هو دون هؤلاء
من الملوك الظلمَة
لكان ذلك خيراً من
عدمهم ....
كما
يقال ستون سنة مع إمام جائر خيرٌ من ليلة واحدة بلا إمام...
والناس
لا يمكنهم بقاء أيام قليلة بلا ولاة أمور ، بل كانت أمورهم تفسد...
ومن
المعلوم أن أهل السنّة لا ينازعون في أنه كان بعض أهل الشوكة بعد الخلفاء الأربعة
، يولون شخصاً
وغيره أولى بالولاية منه ، وقد كان عمر بن عبد العزيز يختار أن يولى القاسم بن
محمد بعده لكنه لم يُطِق ذلك ، لأن أهل الشوكة لم يكونوا
موافقين على ذلك . وحينئذ فأهل الشوكة الذين قدّموا المرجوحَ وتركوا الراجحَ ، والذي تولى بقوّته وقوة أتباعه ظلماً وبغياً ، فيكون إثم هذه الولاية على مَن ترك الواجبَ مع قدرته على فعله ، أو أعان على الظلم
.
وأما مَن لم يظلم ولا أعان ظالماً وإنما أعان على البر والتقوى فليس عليه
من هذا شيء . ومعلومٌ أن
صالحي المؤمنين لا يعاونون الولاة إلا على البر والتقوى ، لا يعاونونهم على الإثم
والعدوان ....
فأهل
السنّة يقولون: الأميرُ والإمامُ والخليفة ذو
السلطان الموجود ، الذي له القدرة على عمل مقصود الولاية
....
ويقولون
أنه يُعاون على البر والتقوى ، دون الإثم
والعدوان ، ويُطاع
في طاعة الله دون معصيته ، ولا يُخرَجُ عليه بالسيف ،
وأحاديث النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إنما تدل على هذا .
كما في الصحيحين ، عن ابن عباس –رضي
الله عنهما – عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال:((من
رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه ، فإنه ليس أحدٌ من الناس يخرج عن السلطان شبراً فمات عليه إلا مات ميتة جاهلية )) فجعلَ المحذورَ هو الخروجُ عن السلطان
ومفارقة الجماعة,
وأمرَ
بالصبر على ما يُكره
من الأمير, لم
يخص بذلك سلطاناً معيناً ولا أميرا معينا ولا جماعة معينة "
ولا شك أن الحكام الأمويين والعباسيين والعثمانيين قد سرّتهم جداً هذه
" الأحاديث " والفتاوى, والنتيجة التي تؤدي إليها , فتبنوها وساهموا في
نشرها وتمسّكوا بالمذاهب
التي تقول بها .
وتوجد مجموعة أخرى من الأحاديث التي تتكامل مع أحاديث طاعة الحكام وتتناغم
معها , وهي
أحاديث اعتزال الفتن, والتي يكثر
إخراجها في كتب الصحاح , ومنها مثلاً من البخاري :
عن أبي هريرة "
قال رسول الله(ص) :
ستكون فتنٌ
القاعد فيها خيرٌ من
القائم, والقائم فيها خيرٌ من
الماشي, والماشي فيها خيرٌ من
الساعي, ومَن
يشرف لها تستشرفه ومَن وجد ملجأ أو معاذا فليعُذ به"[12]
وعن أبي سعيد
الخدري " سمعت النبي(ص)
يقول : يأتي على الناس زمانٌ
تكون الغنم فيه خير مال المسلم, يتبع بها سَعَفَ الجبال في مواقع القطر يفرّ بدينه من
الفتن"
وعن أبي هريرة
" لا تقوم الساعة حتى يقتتل فتيان , فيكون بينهما مقتلة عظيمة, دعواهما واحدة....."[13]
وهذه المجموعة من أحاديث اعتزال الفتن لها هدفان
:
الأول هو جعل الناس يَدَعون الحكامَ بسلامٍ آمنين , رغم غيّهم
وفسادهم.
والثاني هو إعطاء شرعية لكل الذين خذلوا
الإمام علي وتواطؤوا مع معاوية وحزبه بشكل مباشر أو غير مباشر.
حقيقة أحاديث طاعة الحاكم
إن أصابع حكام
بني أمية بالغة الوضوح في صناعة وترويج
هذه الأحاديث :
فليس هناك ما يمكن لهم أن يخترعوه على لسان الرسول(ص) لتثبيت حكمهم الظالم أفضل من
هذه الأقاويل !
فلا يمكن التصديق أن الرسول الذي أرسله الله ليهدي البشرَ وينير لهم دروبَ الحق,
يمكن أن يوصي المؤمنين
بقبول حكم القهر والظلم والفساد, لأن ذلك ضدّ النبوّة ذاتها .
وكان اختراع
الأحاديث ونسبتها للرسول(ص) من أجل الدفاع عن الحكام الفاسدين قد بلغ درجة صارخة
على أيدي بني أمية. وكانت " الأحاديث " تفصّل فوراً على مقاس أولئك من اجل إسكات كل منتقديهم
على أساس أن تلك هي إرادة الله ورسوله. فمثلاً
, عندما انتقد الناس والي عثمان بن عفان على البصرة, عبد الله بن عامر, على لبسِه ما رقّ ولانَ
من الثياب, خلافاً لرعيته, انبرى
أتباع الوالي للردّ عليهم , وهو في هذه الحالة أبو بكرة أخو زياد بن أبيه, على النحو
التالي :
" ... كنتُ مع أبي بكرة تحت منبر ابن عامر وهو يخطب
وعليه ثيابٌ
رقاق.
فقال أبو بلال : أنظروا إلى أميرنا يلبس ثياب
الفسّاق!
فابن عامر هنا
هو سلطان الله على الأرض, ولا تجوز إهانته أو انتقاده.
ولا شك أن كل
أحاديث الطاعة هذه إنما قد وضعت ونسِبت
للرسول(ص) من أجل التغطية على ما قاله الرسول(ص) حقاً
من كلام يحثّ على مواجهة الظالمين :
" إن
من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر "[15]
النموذجُ
الساطع
وقد
طبّقَ عبد الله بن عمر
وصايا هذه "الأحاديث" وكان نموذجاً
ساطعاً لها, في الجُبن
والخنوع أمام الطغاة!
فعلى الرغم من كونه ابن عمر بن الخطاب و وأن
أباه بالذات هو الذي عيّن معاوية في الشام, وجعل له قيمة في دولة الإسلام بعد أن
كان هو وأبوه منبوذين من جميع المسلمين بعد الفتح, رغم ذلك كله لم يجد ابن عمر في
نفسه الجرأة ليردّ على معاوية الذي قال كلاما فاجراً.
وفيما يلي النص من صحيح البخاري " عن ابن عمر قال : دخلتُ على حفصة ونسواتها تنطف. قلتُ : قد كان من أمر الناس ما ترين , فلم
يجعل لي من الأمر شيء . فقالت : إلحق فإنهم ينتظرونك وأخشى أن يكون في احتباسك
عنهم فرقة. فلم تدعه حتى ذهب.
فلما تفرّق الناس خطب معاوية. قال : مَن كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر فليُطلِع لنا قرنه, فلنحن أحق به منه ومن أبيه!
قال
حبيب بن مسلمة: فهلاّ أجبته؟
قال عبد الله : فحللتُ حبوتي وهممتُ أن أقول: أحقّ بهذا
الأمر منك مَن
قاتلكَ
وأباك على الإسلام.
فخشيتُ أن
أقول كلمة تفرّق بين الجمع وتسفك الدم ويحمل عنّي
غير ذلك. فذكرتُ ما
أعدّ الله في الجنان
"[16]
فبدلاً من أن يتصدّى ابن عمر
للحاكم الفاجر, قرر أن يصمتَ لأنه ذكرَ ما أعدّ الله في الجنان.
ولم
يكتفِ ابن عمر بابتلاع الإهانة, بل روى لمعاوية ما يُرضي
هواه في الانتقاص من عدوّه عليّ بن أبي طالب! فقد روى ابن
عساكر أن معاوية قدِم المدينة وهو في طريقه للحج فروى له ابن
عمر حديثاً نسَبَه إلى النبي(ص):
"
إن رسول الله(ص) قال : وزنتُ
بأمتي فوضِعتُ
في كفةٍ وأمّتي في كفّةٍ فرجحتُ بأمّتي, ثم وُضعَ أبو بكر مكاني فرجحَ بأمّتي, ثم وضِع عمر مكانه فرجحَ, ثم وُضع عثمان مكانه فرجحَ بهم. ثم رُفِع الميزان"[17]
فكما يقول ابن عمر,ليس لعليّ بن أبي طالب مكانٌ بين مَن
وُزنوا بالأمة فرجحوا, وهم الخلفاء الثلاثة , وبالترتيب.
وكان
ابن عمر حريصاً في حديثه الكثيرعن
الرسول(ص) على عدم ذكر أي شيئ يمكن أن يسوء معاوية. فمثلاً,
معلومٌ أنه قد بلغ من شدّة ألم الرسول(ص) وحزنه
على عمّه حمزة وعلى أصحابه الشهداء يوم أحُد,
أنه كان يدعو على أبي سفيان وطغاة قريش في صلاة الفجر. ولكن وردت الرواية في صحيح البخاري , في معرض حديثه عن معركة أحد, وفيها أسلوب التورية عن طريق حذف الأسماء, مراعاة لمعاوية وخوفاً
من سلطانه . وفيما يلي النص عن عبد الله بن
عمر :
"
أنه سمعَ
النبي(ص) يقول في صلاة الفجر, ورفع رأسَه من الركوع قال : اللهم ربنا ولك الحمد في الآخرة,
ثم قال : اللهم العن فلاناً وفلاناً .
وأما
ابن عساكر
فقد صرّحَ بأسماء الذين
لعنهم النبي(ص) , وعلى رأسهم أبو سفيان.
وانتهى المطاف بابن عمر بمدح معاوية , كما ذكر ابن تيمية عنه:
"وقوله في مدح معاوية معروفٌ ثابت عنه ، حيث يقول : ما رأيتُ بعد رسول الله (ص) أَسْوَد من معاوية . قيل له: ولا
أبو بكر و عمر ؟ فقال : كان أبو بكر وعمر خيراً منه ، وما رأيتُ بعد رسول الله(ص) أسوَد من
معاوية .
وابن
عمر ذاته, وهو في أواخر عمره, شيخاً طاعناً في السن, ومع ذلك قبلَ أن يبايع رجلاً
من أمثال عبد الملك بن مروان ! فقد جاء في صحيح البخاري
أن عبد الله بن عمر كتب إلى عبد الملك بن مروان : " إني أقر بالسمع
والطاعة لعبد الله عبد الملك أمير المؤمنين على سنة الله وسنة رسوله
فيما استطعتُ,
وإن بنيّ قد أقروا بذلك"
[20]
وأورد
ابن أبي الحديد المزيد من التفاصيل عن بيعة ابن عمر لعبد الملك أكثر مما ورد في
رواية البخاري . فابن عمر " طرَقَ على
الحجاج بابَه
ليلاً , ليبايع لعبد الملك, كيلا يبيت تلك
الليلة بلا إمام , لأنه روى عن النبي (ص) أنه قال : ( مَن ماتَ ولا إمامَ له, مات
ميتة جاهلية).
وحتى
بلغ من احتقار الحجاج له , واسترذاله حاله, أن أخرج رجله من الفراش فقال : اصفق
بيدك عليها"[21]
مع
العلم أن جرائم عبد الملك هذا, وواليه على العراق الحجاج بن يوسف, قد بلغت حداً يفوق كل تصور. فكان القتل على الشبهة,
وكان القتلى المظلومون بعشرات الالآف : " أحصوا ما قتلَ الحجاج صبراً فبلغ مائة وعشرين ألف قتيل
"[22]
وكان
ابن عمر قبل ذلك قد بايعَ يزيدَ بن معاوية, وتشدّد في الوفاء ببيعته, كونه إماماً شرعياً!
فابن عمر لا يرى في مخالفة طاغية , كيزيد, إلاّ غدراً.
"
لما خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية, جمع ابن عمر حشمَه وولده فقال : إني سمعتُ النبي(ص) يقول : يُنصَب لكل غادرٍ لواءٌ يوم القيامة. وإنّا قد بايعنا هذا الرجل على بيع
الله ورسوله. وإني لا أعلم غدراً
أعظم من أن يبايع رجل على بيع الله ورسوله ثم ينصب له القتال. وإني لا اعلم أحداً منكم خلعه ولا تابع في هذا الأمر, إلاّ
كانت الفيصل بيني وبينه"[23]
الحاكمون ورواة الحديث
وكان
الحكام, بشكل عام, حريصين على التواصل مع الذين يتصدّون لرواية أحاديث النبي(ص).
وتلك طبعاً طريقة فعالة في ضمان حثّ العامة على
طاعتهم, ونسبة ذلك إلى النبي(ص).
وبدأ ذلك من أيام معاوية وعلاقته مع أبي هريرة واستمر من
بعده. فمثلاً ذكر
ابن حبان أن
الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك أدّى عن الزهري
سبعة آلاف دينار ( دَيناً كان عليه)[24].
ولم
تعرَف
عن هشام بن عبد الملك الكثير من أخلاق الورع والتقوى, ولم يكن مشهوراً عنه اهتمامُه
بقضاء ديون رعيته من المسلمين. ولكنّ الزهري مُحدّثٌ عَلمٌ ومعروف[25].
وللخليفة مصلحة في استرضائه. وقد قبلَ
عطية الخليفة.
ويبدو أن الزهري كان, خلال فترات عمره الطويل, على علاقة
وثيقة متواصلة مع الملوك الأمويين, وليس مع هشام فقط. فقبل هشام, كان عبد الملك بن
مروان قد منحه الأموال وأمرَه بالتفرغ للدراسة, وكان سليمان بن عبد الملك قد عينه
مستشاراً له, وبعدها أصبح سميراً للخليفة عمر بن عبد العزيز, ومن ثم قاضياً ليزيد
بن عبد الملك, إلى أن قربه هشام أخيراً وجعله مؤدباً لأولاده.[26]
ولا بد أن ارتباطات الزهري مع ملوك بني أمية غدت عميقة
إلى درجة أثارت حوله الشبهات. فقد ذكر ابن
أبي الحديد ما يفيد أن الزهري لما
خالط سلاطين بني أمية, استنكر الكثيرون ذلك. حتى أن رجلاً
ناصحاً له كتب إليه رسالة مفيدة :
"
... فقد أصبحتَ
بحالٍ ينبغي لمن عرفك أن يدعو الله لك ويرحمك.
...
فقد أصبحتَ
شيخاً كبيراً وقد أثقلتكَ نِعمُ الله عليك....
وليس
كذلك أخذ الله الميثاقَ على العلماء. فإنه تعالى قال ( لتبيننه
للناس ولا تكتمونه) . واعلم أن أيسر ما ارتكبتَ , وأخفّ ما احتملتَ, أنك آنستَ وحشة الظالم,
وسهّلتَ سبيل الغيّ,
بدنوّكَ إلى
مَن لم
يؤدّ حقاً ولم
يترك باطلاً حين
أدناك.
اتخذوك – أبا بكر – قطباً تدور عليه رحا
ظلمهم وجسراً
يعبرون عليه إلى بلائهم ومعاصيهم , وسلّما يصعدون فيه إلى ضلالتهم. يُدخِلون بك الشك على العلماء , ويقتادون بك قلوبَ الجهلاء ..."[27]
ولا
عجب , بعد كل ما رواه واستنّه وطبّقه من شرعية مبايعة حكام الظلم والقهر, أن يكون كلام عبد الله بن عمر هو
المفضّل لدى السلاطين والخلفاء, وشخصه هو ما يريدون للعامة أن تتخذه
مثالاً وقدوة. وقام فقهاءٌ بالتواطؤ مع هؤلاء الحكام في اعتماد
مرجعية ابن عمر . وفيما يلي نص حوار جرى بين الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور
ومؤسس المذهب المالكي الإمام مالك
بن أنس:
"
... أخبرنا مالك بن أنس قال : قال لي أبو جعفر أمير المؤمنين : كيف أخذتم قول
ابن عمر من بين الأقاويل؟
فقلت
له : يا أمير المؤمنين : كان له فضل الناس , ووجدنا مَن تقدمنا أخذ به, فأخذنا به.
ولا بد من الإشارة إلى أن عملاء السلطة قد جعلوا حتى عبد الملك بن مروان – الذي لم
يتورع عن هدم الكعبة أثناء صراعه ضد ابن الزبير –
فقيهاً! فقد وردَ
عن يحيى بن معين " حدثنا يحيى قال : حدثنا أبو معاوية قال
حدثنا الأعمش عن ابن ذكوان قال : كان فقهاء أهل المدينة أربعة : سعيد بن
المسيب وعروة بن الزبير وقبيصة بن ذؤيب وعبد الملك بن مروان" [29]
[2] صحيح مسلم كتاب
الإمارة (ص 720)
[3] صحيح البخاري
كتاب الفتن (ج9 ص 59) . وكذلك روى الإمام أحمد في
مسنده (ج1 ص310)
[4] صحيح مسلم كتاب
الإمارة (ص 721 )
[5] صحيح مسلم كتاب
الإمارة (ص 715). وورد نفس الحديث حرفيا تقريبا في صحيح البخاري باب يقاتل من وراء الإمام ويتقى به (ج4
ص60)
[8] سنن الترمذي باب ما
جاء في أشراط الساعة (ج3 ص 333 رقم 2302)
[13] صحيح البخاري باب علامات
النبوة ج4 ص 243
[14] سنن الترمذي ج3 ص341.
[16] صحيح البخاري باب غزوة الخندق (ج5 ص 141)
[18] صحيح البخاري باب قول
الله تعالى ليس لك من الأمر شيء (ج9 ص 131)
[20] صحيح البخاري (ج8 ص123).
وكذلك ورد في موطّأ مالك (ج2 ص983)
[25] محمد بن شهاب الزهري هو من
أهم رواة الأحاديث لدي الشيخين البخاري ومسلم. ومعظم أحاديثه رواها نقلاً عن حميد بن
عبد الرحمن بن عوف, والذي بدوره رواها نقلاً عن أبي هريرة.