عقيدة القضاء والقدر
من الاختلافات بين عقيدة اهل السنة والجماعة
والمعتزلة ,,,,, مسألة " العدل الالهي " , والتي هي من مبادئ مذهب
المعتزلة.
ويتلخص ذلك المبدأ في أن الله عز وجل هو
عادلٌ بالضرورة , وأن فكرة العدل لا يمكن أن تنفصل عن فكرة الله وبالتالي فإن كل
عمل من أعمال الارادة الالهية لا بد أن يتفق مع شرط هذه العدالة.
ولكن اين المشكلة في ذلك ؟ اين الخلاف ؟ فأي
مسلم تسأله سيجيبك حتماً بأن الله تعالى عادل , لا شك في ذلك ولا جدال!
الجواب هو في مقتضيات القول بمبدأ العدالة
الالهية. في عواقب ذلك القول. فالمعتزلة قالوا بتنزيه الله تعالى عن الظلم والقُبح
, بمعنى انه لا يمكن أن يصدر عنه فعل الظلم ولا ارادة الشر. أي أنهم وضعوا "
قيوداً " إن جاز التعبير على الله , أو " ألزموه " بمقتضيات العدل
. وبالتالي قال عنهم خصومهم انهم اعتبروا الله " عاجزاً " عندما نفوا
عنه إمكانية فعل الشر والظلم .
وأما أهل السنة والجماعة فيرون أن ارادة
الله مطلقة وبلا حدود وأنه " لا يُسأل عما يفعل " وبالتالي لو شاء أن
يظلم ويكذب فله ذلك . ولو شاء أن يُعذب البريء في نيران جهنم فهو قادر على ذلك .
وممكن له لو اراد أن يأمر بالقبيح بدل الحَسَن, وليس للبشر الاَ التسليم بذلك له
سبحانه لأنه " فعّالٌ لما يريد ". ويستدركُ فقهاء مذهب اهل السنة
والجماعة ليقولوا : ان الله تعالى عادل ورحيم , ولا يصدر منه الا الخير ولا يظلمُ
,,, ذلك صحيح ودلَت عليه آيات القرآن , ولـــكـــن لو شاء أن يظلم لفعل , ولو شاء
أن يخالف مقتضيات العدل فهو قادر على ذلك.
وهذا الاختلاف في النظرة والفهم كبيرٌ ومهم.
لأن رأي أهل السنة والجماعة يفتح الباب لإمكانية نسبة الشر والظلم الى الله , والى
ارادة الله , على أساس نظرية " القضاء والقدر " .
******
" المكتوب على الجبين لازم تشوفه العين "
تختصر هذه العبارة الشعبية من مصر كل عقيدة
"أهل السنة والجماعة " في مسألة القضاء والقدر. بل انه قد تمّ بطريقةٍ
ما رفع مكانة نظرية "القضاء والقدر" السنّية حتى صارت من أساسيات
العقيدة . ومثلا : في مدارس الحكومة في الاردن يتم تدريس " أركان الايمان
" في مادة التربية الاسلامية على النحو التالي " الايمان بالله ,
وملائكته, وكتبه, ورسله , واليوم الآخر , وبالقدر خيرِه وشرّه " ! أي انهم
جعلوها من أركان الدين التي لا يصحّ ايمان المسلم الاّ بها .
ولكن ما هي هذه العقيدة ؟ ما هو هذا "
الركن السادس " الاساسي في ديننا ؟
باختصار : ان الله تعالى كتب أفعال كل إنسان
في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق الدنيا وما عليها . وهو سبحانه قد كتب المقادير وكل
أعمال العباد وكل ما سيكون الى يوم القيامة. ويشرح فقهاء وعلماء أهل السنة
والجماعة هذه العقيدة على النحو التالي :
(الإِنسان ميَسَّر ومُسَيَّر لما خلق له على ما
مضى من قدر الله، لا يخرج عن قدر الله . وهو مُخَيَّر أيضًا من جهة ما أعطاه الله
من العقل والإِرادة والمشيئة، فكل إِنسان له عقل ومن كان عنده العقل فهو مخير
يستطيع أن يعمل الخير والشر)
أي انهم يقولون لنا : ان الانسان مسؤول
وقادر على أن يفعل الخير او الشر ولكن في ذات الوقت فإن الخطة الالهية التي أحكمها
عز وجل منذ الازل اقتضت أن يخلق العباد ويخلق أفعالهم ايماناً و كفراً وطاعات
ومعاصي . وهذا كله مكتوب , حتى طرفة العين وخطوة القدم .
ويقولون ايضا ( العبادُ فاعلون حقيقة ,
والله خالق أفعالهم . والعبدُ هو المؤمن والكافر والبر والفاجرُ والمصلي والصائم,
وللعباد قدرة على أعمالهم ولهم ارادة. والله خالقهم وخالق قدرتهم وارادتهم ) .
ومعنى ذلك : الانسانُ هو الفاعل , ولكن الله
هو خالق أفعاله !
والأمر بحاجة الى كلام طويل لشرح التناقضات
والاشكاليات في نظرية القضاء والقدر هذه . وسوف ألجأ الى بعض الأمثلة السهلة
للتوضيح,,,,,
******
اذا كان الله قد كتب منذ الأزل أنه سيخلق
أبا جهل وسيخلق في قلبه الكفر والعناد والجحود حين يرسل نبيّه اليه وهكذا سيكون
مصيره جهنم ,,, فالسؤال هو : هل خلقه سبحانه - وهو أرحم الراحمين - ليحرقه بالنار
اذن ؟ ولماذا ارسل اليه رسوله ؟ فقط ليقيم عليه الحجة حتى يدخل النار ؟! فعلام
ارسال الرسول اذا كانت النتيجة المكتوبة سلفاً والتي سيخلقها الله - وعلم أزلاً
أنه لا بد أن يخلقها فيه - هي الكفر الموجب للخلود في النار ؟ ! واذن فهو لم يرسل
اليه الرسول الا لتقام عليه الحجة وليدخل النار وليكون هناك مبرر ومسوّغ لذلك. أي
أنه خلقه ابتداءً ليدخله النار!
هذه نتيجة لا مفر منها لمن يؤمن بنظرية
(القضاء والقدر) التقليدية و بفكرة مشيئة الله التي تتحكم فينا وتسيّرنا حسبما
كُتب منذ الازل في اللوح المحفوظ
******
رجلٌ وامرأة يزنيان .
اذا قيل انهما حرّان مختاران وأنهما خالقان
لأفعالهما , فمعنى هذا أن وقوع الزنا منهما أمرٌ ممكن محتمل , قد يقع أو لا يقع ,
فإذا وقع فقد أوقعاه باختيارهما وإرادتهما , فهذا كلامٌ مفهوم.
ولكن أن يُقال : انه قد وقع باختيارهما ,
ولكنه مكتوب منذ الأزل ولا بد للمكتوب أن يكون , وأن الله سيخلق فيهما ارادة هذه
الفاحشة , وسيخلق على أجسادهما فعلها والحركة بها , ولا بد لهذا أن يقع لأن الله
يريده من الأزل ! مع كونهما حرّين مختارين ,,,, فهذا كلامٌ غير مفهوم وغير معقول
******
الآلاف من الضحايا الذين قتلوا منذ بضع
سنوات في قطاع غزة على ايدي قوات العدو الاسرائيلي, والاطفال الذين قطعت أطرافهم
وعميت عيونهم ,,,, هل قرر الله منذ الأزل أنهم لا بد أن يموتوا ويتشوهوا في ذلك
الوقت على يد الصهاينة المعتدين ؟
واذا كان الله هو الذي كتب في اللوح المحفوظ
وحدد سلفاً مصائر وآجال هؤلاء الضحايا على أيدي الصهاينة ,,,,, فهل يملك الصهاينة
إلاّ أن يعتدوا على هؤلاء القتلى والمصابين ليحققوا المشيئة الالهية ؟! الصهاينة
اذن هم مجرد أدوات لتنفيذ إرادة الله التي لا رادّ لها
فتأمّل يا أخي القارئ
******
توظيف نظرية القضاء والقدر من قبل الأمويين
اشتهر عن معاوية بن ابي سفيان قوله "
لو لم يرَني ربي أهلا لهذا الأمر، ما تركني وإياه.
ولو كره الله ما نحن فيه لغيّره".
وقال السفاح عبيد الله بن زياد للسيدة زينب : كيف
رأيتِ صُنعَ الله بأخيك وأهل بيتك؟
ونادى منادي عبد الملك بن مروان في وسط أتباع منافسه
وابن عمه عمرو بن سعيد الأشدق بعد أن قتله وقذف برأسه بينهم : ان أمير المؤمنين
قد قتل صاحبكم بما كان من القضاء السابق والأمر النافذ.
فكان طغاة الدولة الأموية يقولون للرعية : انما نحن قدرُ
الله وقضاؤه , وكل ما نقوم به انما هو مشيئته سبحانه ! فالله تعالى لا يريد الاّ
الخير لعباده ولذلك اصطفانا لنكون أمراءً عليكم . ولو لم يكن الله راضياً بنا
لبدّلنا تبديلا , فهو قادر على كل شيء .
فكل ما اقترفه الخلفاء والأمراء كان يجب أن يحصل لأنه
قدرٌ أزليّ وليس في مقدور اي ارادة بشرية تجنبه.
فاقبلوا بنا ايها المؤمنون وسلّموا لنا تسليما
******
بعد الذي قلناه , هل يعني ذلك نفي مبدأ القدر والعلم
الالهي الأزلي ؟ وماذا نفعل بآيات كثيرة تحدثت عن ذلك ومنها :
( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي
أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا ) وكذلك (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ) ؟
اذن مسألة القضاء
والقدر ليست بدعة ولا من بنات أفكار الفقهاء.
ذلك صحيح. ولا يمكن انكار تلك النصوص الصريحة الواردة في
القرآن والأحاديث الصحيحة.
ولكن المشكلة هي في الفهم الخاطئ لتلك النصوص والتي
تحولها الى عقيدة جبر.
وأما ما أراه فهما صحيحا فسألخصه كما يلي وسوف أتبعه
بمثال مبسّط :
نعم ان الله كتب كل شيء, ولكنه لم يكتب كل شيء بمعنى أنه
" حتميّ الحصول ", وانما كتب كل شيء بمعنى أنه " ممكن الحصول
". والممكن هو الذي يحتمل أن يقع أو لا يقع. فكل شيء ممكن أن يوجد هو مكتوب
عند الله تعالى أنه ممكن أن يحصل , فإذا وُجد هذا الشيء ووقع , لم يخرج عما كتبه
الله, فهو قد كتبه ممكنا في دائرة الممكنات والاحتمالات القابلة للوقوع, واذا لم
يقع لم يخرج في عدم وقوعه عما كتبه الله.
فالانسان هو خالق أفعاله ( وهذه عقيدة المعتزلة) , واذن
فكل الخيارات والممكنات متاحة, وكل الممكنات معلومة لله تعالى قبل وقوعها. فهو
يعلم الاشياء على سبيل الاحاطة والشمول. وما هو مكتوب سلفاً في اللوح المحفوظ انما
هو الممكنات ,,, وهكذا فلا حتمية , وليس شيء من أفعال العباد محتوماً على العباد.
وهكذا تزول الاشكاليات السابقة التي ينتجها الفكر
الجبري.
فالله تعالى خلق الانسان حراً , ذا إرادة وقدرة, وفاعلاً في هذا
الكون. فلا يجوز أن ننسب أفعالنا وأعمالنا الى الله . بل هو منزّه عن ذلك كله.
نحن الذين نصنع الخير او الشر في هذا الكون , وتلك هي مشيئة
الله التي تحدث عنها في القرآن . مشيئة الله كونيّة كليّة وليست تفصيلية يومية.
والله فوّض الانسان للتصرّف في هذا الكون وأعطاه الصلاحية والوسيلة لذلك (العقل) ,
وبناء على هذا يُحاسبه. ولم يجعل عليه قضاءً محتوما.
******
ليس قضاءً لازماً ولا قدراً حاتماً , بل أمَر عبادَه تخييراً
,,,,,,,,,,,,,,, فتأمّل يا أخي القارئ
******
وسأضرب مثالا مبسّطاً لتوضيح الفهم الصحيح
لقضية العلم الالهي الازلي في اللوح المحفوظ.
في كرة القدم !
عندما ينظم اتحاد كرة القدم مباراة في الدوري
بين فريقين فإنه في الواقع يعرف مسبقاً بالنتيجة : فإما أن يفوز الفريق الاول , أو
يفوز الثاني , أو يتعادلان. هذه كل الاحتمالات. ولا توجد نتيجة ممكنة غيرها. أي ان
اتحاد الكرة , الذي نظم المسابقة وأخرجها وأنتجها ووضع قوانينها , يعرف سلفاً ماذا
سيحصل - بالاجمال. ولكن التفصيل الدقيق والنتيجة الفعلية لا يعلمها لأنها تعتمد
على مجهود الفريقين في الملعب.
وهكذا العلم الالهي في اللوح المحفوظ . فالله
وضع قوانين الطبيعة التي تتحكم في الكون وتسير وفقها الاشياء, وهو بالتالي يعلم
مسبقاً بكل شيء ممكن أن يحصل مع الانسان. لا مفاجآت , فكله معلوم مسبقاً -
بالاجمال.
فالله يعلم أن الطالب الفلاني في الثانوية
العامة أمامه احتمالات : إما أن يجتهد ويحصل علامة مرتفعة , وعندها قد يدخل كلية
الطب او الهندسة . فإذا دخل كلية الطب فقد يلتحق بوظيفة في مستشفى أو يفتح عيادة
خاصة ,,,,, الخ
وإما أن يحصل الطالب على علامة متوسطة في
الثانوية العامة , فعندها ربما يدخل صفوف الجيش , وبالتالي ربما يرتقي في السلم
العسكري ويصبح عقيداً اذا كان ناجحا ً ,,,,, الخ
وإما أن يفشل الطالب في الثانوية العامة ,
وعندها ربما ينخرط في احدى المهن اليدوية فيصير نجاراً او سباكاً ,, او ربما ينحرف
ويصير مجرماً ,,,, الخ
أي انه يعلم كل الاحتمالات الممكنة , ولا شيء
يخرج عن علمه الاجمالي عز وجل. وطبعاً كل ذلك في سياق نواميس الكون التي خلقها.
هذا هو اللوح المحفوظ , وهذا العلم الالهي
المسبق . إجماليّ . علم الممكن والمحتمل. محيطٌ بكل شيء.
ولكن طبعاً يبقى تفصيل ما سيحدث , والاتجاه
الذي ستسير عليه الامور , مرهون بإرادة الانسان , وقراره , وعمله , واجتهاده. أي
ان الانسان هو الذي يحدد فعلياً ما سيحدث معه , فذلك منوطٌ به , وهو شأنه.
والخلاصة أن تفاصيل حياتنا وما نتعرض له من
مشاكل وما نحققه من نجاحات , ليس مكتوباً علينا بأمر من الله في اللوح المحفوظ بل
هو مرهون بنا نحن أصحاب القرار وأصحاب الفعل.
وليس في ذلك ما يناقض مشيئة الله في الكون ولا
علمه الازلي المكتوب في اللوح المحفوظ.
******
وأرغب في توضيح مسألة " المشيئة الالهية ". فهناك خلط ولبْس لدى الكثيرين
بشأنها.
فالصحيح أنه يوجد نوعان من " المشيئة
الالهية " : مشيئة تكوينية , ومشيئة تشريعية. وهما مختلفتان.
فالمشيئة التكوينية تتعلق بهذا الكون ,
ووجود الشمس والقمر, والبحار والانهار, وطبقات الارض والنباتات ,,,, الخ. وهذه هي
المشيئة الالهية الحتمية التي لا راد لها. ولا تتعلق بالفكر ولا بالسلوك وليس
للإنسان شأن بها.
وأما المشيئة التشريعية فتتعلق بالانسان .
وهي أقرب ما تكون الى التوصيات والتوجيهات . أي أنها ليست حتمية ويمكن للإنسان أن
يأخذ بها , أو يردها. فالله " يريد " من الانسان أن يكون صادقاً وأميناً
ولكن هذه الارادة الالهية قد لا تتحقق اذا رفضها الانسان. أي أن هناك " مشيئة
" الهية يمكن للانسان أن يتحداها بمشيئته هو !
والقرآن الكريم بلغته ومفرداته لم يميز بين
الاثنتين واستعمل ذات الكلمة في الحالتين. ولذلك يخلط البعض بين المشيئتين وينعدم
التمييز بينهما! فيضعب على البعض استيعاب أن هناك بالفعل " مشيئة الهية
" ولكنها قد لا تتحقق.
مثال : (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون
بالمعروف وتنهون عن المنكر)
هذه لا تعني أبداً بأن المسلمين أفضل من
غيرهم من الأمم . انما هي توجيه وطلب من الله للمسلمين بأن يأمروا بالمعروف وينهوا
عن المنكر . أي أن الله " يتمنى " و " يشاء " لنا أن نكون خير
الأمم , ولكن ذلك لا يعني أننا بالفعل أفضل من غيرنا. انها مشيئة تشريعية , وليس
حتماً أن تتحقق.
فربما تكون أمة الهند أو أمة الصين أفضل من
أمة الاسلام , وكوننا مسلمين لا يمنحنا الأفضلية على غيرنا تلقائياً
******
ومن المفيد أن نقرأ رأي وكلام الامام أحمد بن حنبل كما نقله عنه أصحابه بشأن موضوع القضاء والقدر.
يقول - ويجعل ذلك من عقائد السلف - بأن " القدر خيره
وشره، وقليله وكثيره، وظاهره وباطنه، وحلوه ومره، ومحبوبه ومكروهه، وحسنه وسيئه،
وأوله وآخره، من الله قضاء قضاه، وقدر قدره عليهم، لا يعدو واحد منهم مشيئة الله عز
وجل، ولا يجاوز قضاءه، بل هم كلهم صائرون إلى ما خلقهم له، واقفون فيما قدر
عليهم لأفعاله، وهو عدل منه عز ربنا وجل، والزنى والسرقة وشرب الخمر وقتل النفس
وأكل المال الحرام والشرك بالله والمعاصي كلها بقضاء وقدر، من غير أن يكون
لأحد من الخلق على الله حجة، بل لله الحجة البالغة على خلقه (لا يُسأل عما يفعل
وهم يسألون) وعلمُ الله عز وجل ماضٍ في خلقه بمشيئة منه، قد علم من إبليس ومن غيره
ممن عصاه - إلى أن تقوم الساعة - المعصية وخلقهم لها، وعلم الطاعة من أهل الطاعة
وخلقهم لها. وكل يعمل لما خلق له، وصائر لما قضى عليه وعلم منه، لا يعدو
واحد منهم قدر الله ومشيئته. والله الفاعل لما يريد، الفعال لما يشاء...
ومن زعم أن الزنى ليس بقدر، قيل له:
أرأيت هذه المرأة، حملت من الزنى وجاءت بولد، هل شاء الله عز وجل أن يخلق هذا
الولد ؟ وهل مضى في سابق علمه ؟ فإن قال: لا، فقد زعم أن مع الله خالقا وهذا هو
الشرك صراحا.
ومن زعم أن السرقة وشرب الخمر وأكل المال
الحرام، ليس بقضاء وقدر، فقد زعم أن هذا الإنسان قادر أن يأكل رزق غيره، وهذا صراح
قول المجوسية.
بل أكل رزقه وقضى الله أن يأكله من الوجه
الذي أكله.
ومن زعم أن قتل النفس ليس بقدر من الله عز وجل، وأن ذلك (ليس) بمشيئته في
خلقه، فقد زعم أن المقتول مات بغير أجله. وأي كفر أوضح من هذا. بل ذلك بقضاء الله
عز وجل وذلك بمشيئته في خلقه، وتدبيره فيهم وما جرى من سابق علمه فيهم. وهو العدل
الحق الذي يفعل ما يريد,,,,,, "
******
من
ضحايا عقيدة القضاء والقدر في تاريخنا : غيلان الدمشقي
فقد دفع
هذا الرجل حياته ثمناً لاعلانه رأيه الحرّ النيّر في مسألةٍ سعى الحكامُ الى
ترسيخها في أذهان العامة لضمان طاعتهم واستمرار سلطانهم. تلك هي " عقيدة
الجبر الالهي" التي بدأ ملوك بني أمية بفرضها على الرعية -بالتواطؤ مع
فقهائهم – بعد استيلائهم على السلطة وانتهاء فترة الخلفاء الراشدين.
فقد كان
الأمويون
يروجون للعقيدة الجبرية
فيخاطبون العامة بمنطق بسيط فيقولون لهم : أن كل ما كان، و ما هو كائن، و ما سيكون
مستقبلاً، إنما هو أمر الله و قدره,
وإرادته التي سطرها في اللوح المحفوظ من قبل ان يخلق الكون. وقصدهم في ذلك طبعاً
تبرير حكمهم للناس، واعفاء انفسهم من مسؤولية الظلم والقهر والفساد ورفع اللوم
عنهم لما أحدثوه من تغييرات في نظام الحكم الإسلامي وتحويله الى مُلكٍ عضوض.
فجاء غيلان - وهو كان رجلاً ألمعياً , مسلماً فاضلاً , من أصل مصري , يعيش
في عاصمة الامويين دمشق- وقرر أن ينقض
عقيدة الجبر هذه من اساسها.
فكان يرفض أن تنسب
الشرور التي نفلعها نحن البشر إلى الله تعالى ويرفض رفضا تاما المنطق المتهافت
الذي يؤصل باسم الدين أن جميع الشرور من قتل واغتصاب ودمار وآلام مصدرها هو الله .فكان يقول ان الإنسان هو المسؤول عن أفعاله
وأنها تنسب إليه حقيقة لا مجازا وأن الله سبحانه أعظم وأجل من أن يجبرنا على
الأفعال التي نفعلها ثم يلقينا بالنار بناء على جبره لنا . وكان يؤصّلُ لهذه
الفكرة المنطقية الواضحة بأدلة شرعية قوية من القرآن والسنة ويؤمن إيمانا تاما
بالعدالة الإلهية.
وطبعاً هذه الدعوة لا يمكن ان تروق للحكام
الامويين. بل هي مصدر خطر داهم عليهم وعلى نظام حكمهم. لأنها تحملهم هم مسؤولية
الفساد والظلم الذي كان عاماً , وتنزّه الله عن ذلك.
وقد زاد الطين بلة بنظر الحاكمين من بني أمية رأيه في
موضوع الخلافة والامامة . فخلافاً لنظريتهم – التي ألبسوها ثوباً شرعياً- حول ان
" الائمة من قريش" قال غيلان أنها تصلح في كل من يجمع شروطها، و لو لم يكن من
قبيلة قريش (كل من
كان قائماً بالكتاب و السنة فهو مستحق لها).
فكان لا
بد من القضاء عليه. وتولّى ذلك الخليفة هشام بن عبد الملك. ولكن كان لا بد من اضفاء
صبغة شرعية على قرار اعدامه. فاستدعى الخليفة فقيه بلاد الشام المشهور آنذاك ,
الامام الاوزاعي, لكي يُفحم غيلان قبل الحكم عليه. ويروي الحافظ ابن عساكر في
"تاريخ دمشق " تفاصيل مؤلمة عما
جرى. فقد جلبوا غيلان الى مجلس الخليفة وقام الاوزاعي بالدور المطلوب منه تماماً :
أهدر دمه بعد مواجهة قصيرة مع غيلان المقيّد بلا حول ولا قوة. وما جرى أبعد ما
يكون عن "المناظرة" أو الافحام بل هو أشبه بالمسرحية المصممة سلفاً للانتقام
من صاحب الرأي الحر. واختتمها الاوزاعي بقوله لهشام بن عبد الملك " كافرٌ
ورب الكعبة يا أمير المؤمنين"!
وكانت تلك الكلمة التي ينتظرها هشام . فأمر بقطع يديه
وقدميه وصلبه على باب دمشق ! لكي يكون عبرة لمن يعتبر ولمن يتجرّأ على التفكير الحر خلافاً لما تريده
السلطة. ونتابع المشهد الدرامي الذي تذكره كتب التاريخ : فقد حاول
أعداؤه أن ينتصروا عليه وهو على الصليب، فقال له أحدهم: “أنظر ماذا فعل بك ربك ,
يا غيلان هذا قضاء وقدر” يريدون منه
الإقرار بمذهبهم، لكنه رغم آلامه أصرّ على موقفه فقال بأعلى صوته: "كذبتَ لعمرو
الله , ما هذا قضاء ولا قدر" واضاف “بل لعن الله من فعل بي ذلك”,,,, مما دفع
بهشام ان يأمر بقطع لسانه ايضاً !
وختاما أشير الى ان كتب التاريخ لم تنصف غيلان الدمشقي. بل
انها تنحاز في مجملها الى موقف الحكام وفقهاء السلاطين. وأغلبها يشنّع عليه ويسوق
ضده التهم والافتراءات, فيزندقونه ويخرجونه من الملة ويجعلونه منحرف العقيدة وعدوا
للاسلام! اسلام هشام بن عبد الملك طبعاً.
رحم الله غيلان الدمشقي , وكل أصحاب الفكر الحر المستنير , في كل
مكان وزمان
*******