اسقاط السياسي والعسكري على الديني والأخلاقي




إن الله يؤيّد هذا الدينَ بالرجل الفاجر

جاء في صحيح البخاري عن النبي(ص) أنه " قال لرجلٍ ممن يدّعي الإسلام : هذا من أهل النار. فلما حضر القتال, قاتل الرجل قتالاً شديداً فأصابته جراحة.
 فقيل يا رسول الله : الذي قلتَ أنه من أهل النار فإنه قد قاتل اليوم قتالاً شديداً وقد مات!
 فقال النبي(ص) : إلى النار!
قال : فكاد بعض الناس أن يرتاب. فبينما هم على ذلك إذ قيل إنه لم يمت, ولكن به جراحاً شديداً. فلما كان من الليل لم يصبر على الجراح فقتل نفسَه.
 فأخبر النبي(ص) بذلك فقال : الله أكبر أشهد أني عبد الله ورسوله ! ثم أمر بلالاً فنادى بالناس إنه لا يدخل الجنة إلاّ نفسٌ مسلمة وإن الله ليؤيد هذا الدينَ بالرجل الفاجر"[1]

وقد أورد الواقدي, في معرض كلامه عن معركة أحُد, التفاصيلَ المتعلقة بهذا الحديث النبوي:
" وكان قُزمان من المنافقين. وكان قد تخلّفَ عن أحُد.
  فلما أصبحَ عيّرَه نساء بني ظفرٍ, فقلنَ : يا قزمان : قد خرجَ الرجالُ وبقيتَ! يا قزمان: ألا تستحي مما صنعتَ ؟ ما أنتَ إلاّ امرأة, خرج قومكَ فبقيتَ في الدار !
فأحفظنه. فدخلَ بيتَه فأخرجَ قوسَه وجُعبته وسيفه – وكان يعرف بالشجاعة – فخرج يعدو حتى انتهى إلى رسول الله(ص) وهو يسوّي صفوف المسلمين. فجاء من خلف الصفوف حتى انتهى إلى الصف الأول فكان فيه. وكان أول مَن رمى بسهمٍ من المسلمين. فجعل يرسل نبلاً كأنها الرماح, وإنه ليكتّ كتيت الجمل. ثم صار إلى السيف ففعل الأفاعيل
.... فلما انكشفَ المسلمون كسرَ جفن سيفه وجعل يقول : الموت احسن من الفرار! يا آل أوس: قاتلوا على الأحساب واصنعوا مثل ما أصنع!
فيدخلُ بالسيف وسط المشركين حتى يقال : قد قتل. ثم يطلع ويقول : أنا الغلام الظفري!
حتى قتل منهم سبعة, وأصابته الجراحة وكثرت به فوقع. فمر به قتادة بن النعمان فقال : أبا الغيداق! قال له قزمان : يا لبيك! قال : هنيئاً لك الشهادة! قال قزمان : إني والله ما قاتلتُ يا أبا عمرو على دين, ما قاتلتُ إلاّ على الحِفاظ. أن تسيرَ قريشٌ إلينا حتى تطأ سعَفنا .
فذُكر للنبي(ص) جراحته فقال : من أهل النار. فأندبته الجراحة فقتل نفسَه. فقال رسول الله(ص) : إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر"[2]

وهذه الحادثة تظهر أنه حتى المنافق, غير المؤمن, ممكنٌ أن تصدر عنه البطولة والشجاعة , وممكنٌ أن يكون مفيداً في نشر وتأييد دين الله , رغم فساد أخلاقه وانحراف مقاصده.
 
قادة الجيوش وأبطال الفتوحات العسكرية

تتلخّص الإشكالية هنا في أن الكثيرين لديهم صورة طوباوية, مثالية, تشوبها الأوهام, عن بعض شخصيات التاريخ الإسلامي, ناتجة في الأساس عن الخلط بين ما هو سياسي – عسكري وما هو ديني - أخلاقي.
ولا بد من التوضيح أنه ليس المقصود من هذا البحث الانتقاص من أهمية الفتوحات والانتصارات العسكرية لبعض القادة ذوي الهالة الكبيرة, وإنما هي محاولة للتحليل ووضع الأمور في نصابها, وتقصّي الدور الأموي في تغذية هذا النمط من التفكير

فمن الضروري التأكيد على أهمية الفصل بين ما هو سياسي – عسكري من جهة, وما هو أخلاقي – ديني من جهة أخرى. بمعنى أن النجاح في المجال السياسي - العسكري لا يعكس بالضرورة فضائل أخلاقية – دينية لمن حقق ذلك النجاح. بل إنه في الغالب هناك نوع من التعارض بين الأمرين!

 فالسياسة والإدارة تحتاج في كثير من الأحيان إلى التضحية بكثير من المبادئ السامية لتحقيق الهدف المنشود والذي هو في النهاية : المصلحة والمنفعة. لأن السياسة هي في الأصل تعاملٌ مع البشر كما هم, وليس كما يفترض أن يكونوا. والإدارة هي تدبير شؤون عامة الناس, وليس الخيّرين منهم فقط. ولا يمكن توقّع وجود سياسة تعتمد على حسن سويّة كل الناس. ولم يكن البشر في أي عصر من العصور جماعة خيّرة متجانسة متآلفة من الصالحين حتى يمكن التوقّع منهم أن يقبلوا جماعياً بمبادئ العدل والخير وانعكاساتها العملية في شؤون الحكم والحياة. ففي الناس دائما أصحاب الأهواء وطلاّب المغانم, وفيهم الأشرار والظالمون, وفيهم السفلة والأوغاد. وكل هذه الأصناف من البشر موجودة في كل مجتمع بنسبة تكبر وتصغر حسب وضع كل بلد.
والقادة السياسيون عليهم أن يتعاملوا مع كل هؤلاء. وعليهم أن يتوقّعوا الأسوأ من كل هؤلاء.  وتطبيق مبادئ العدل والمثالية بحرفيّتها يؤدّي في كثير من الأحيان إلى فجوة بين القائد السياسي ورعيّته. والأخطر من ذلك أنه إذا كان الزعيم أخلاقياً في سياسته, وملتزماً بالمثالية في الحكم والإدارة, فإنّه سيدخل في صراع غير متكافئ مع خصومه – وهم حتماً موجودون-  إذا كانوا لا يقيدون أنفسهم بالضوابط والمعايير التي يفرضها الزعيم الأخلاقي على نفسه![3] وفي كل الأزمان كان السياسيون الناجحون هم أولئك الذين لا يتورّعون عن تجاوز مبادئ الحق, بل وفي كثير من الأحيان إلغاؤها تماماً, إذا شعروا أن في ذلك إخضاعاً لخصومهم وضماناً لاستمرار منافعهم.

وأما في مجال الحروب والفتوحات, فحدّث ولا حرج ! الحرب في حدّ ذاتها فعلٌ وحشيٌ لا إنساني. والحرب لا تعرف الرحمة أو الّلين. وهي صراع بين جهتين لا همّ لهما إلاّ القضاء على بعضهما. وحين يكون الإنسان في مواجهةٍ تتوقّف عليها حياته ومصالحه ومستقبله, فمن السذاجة, بل والغباء, توقّع أن تكون العناصر الأخلاقية السامية هي التي تقوده. وسيجد لنفسه حتماً – إن كان أصلاً من ذوي المبادئ والضمير – مبرّراً لأي فعل يلجأ إليه مهما كان دنيئا في سبيل الإنتصار على عدوّه.
  

" شخصنة " الفتوحات والانتصارات

من اللافت للنظر , عند التعامل مع القضايا التاريخية, وجود نزعة ظاهرة لدى الكثير من الرواة والمؤرخين إلى إبراز وتضخيم العامل الشخصي لدى التطرق لقضايا الحروب والصراعات . ويتجلى ذلك بوضوح في حالات الانتصارات العسكرية, حيث تنسب في الغالب تلك الانتصارات إلى شخص القائد أو الأمير, ويتم تهميش دور المقاتلين وكل الظروف الموضوعية الأخرى. وبمرور الوقت, ومع التكرار , تنشأ حالة من الارتباط بين شخص وحَدَث معين, بحيث لا يذكر ذلك الحدث إلاّ ويذكر معه الشخص بعينه دون غيره. ومثال على ذلك القادسية/سعد بن أبي وقاص , أو اليرموك/خالد بن الوليد.

وهناك جذور أموية لهذه النزعة. فشعور الأمويين بافتقارهم لأي قدر من الشرعية الإسلامية جعلهم يحاولون التعويض عن طريق التركيز على الفتوحات العسكرية والتوسع الاقليمي الذي تم في عهد الدولة الأموية. فحرصوا على تصوير تلك الحروب على أنها " جهاد في سبيل الله " , وبالتالي فهم يكونون قادة مجاهدين يسعون إلى رفع راية الإسلام.

ولا شك أبدا في حرص الأمويين على التوسع والفتوحات. وهو الأمر الذي أدى بهم إلى خوض حروب كثيرة ضد الرومان والأفارقة والإسبان وغيرهم. ولا شك أيضا في فعاليتهم القتالية وشراستهم في مواجهتهم لخصومهم من العجم. فمعاوية ومروان وعبد الملك لم يترددوا في خوض حرب أهلية طاحنة ضد الإمام عليّ سُفكت خلالها دماء عشرات الالآف من العرب وأظهروا فيها قسوة وبطشاً قلّ نظيره, وبالتالي فهم وخلفاؤهم لن يترددوا ولو للحظة في مهاجمة العَجَم إن كانت الفرصة سانحة من أجل توسيع ملكهم وسلطانهم, والحصول على منافع جديدة, ولا بأس بعد ذلك في إظهار الأمر على أنه "جهاد".
أي أن الميدان العسكري هو الوحيد الذي يمكن أن يعطيهم بعض الشرعية بنظر عامة المسلمين. ومن هنا كان التركيز على الفتوحات, وبشكل أخص على القادة.

والمواجهة الطويلة التي خاضتها قريش ضد علي بن أبي طالب منذ لحظة وفاة النبي(ص) إلى حين انفراد معاوية والأمويين بالحكم سنة 41 للهجرة, تطلبت منهم الحصول على دعم أخلاقي واعتباري يبرر معاداة قريش الجماعية لعليّ, صاحب الخصال الإسلامية التي لا يمكن لأحد أن يقترب منها. فكانت الفتوحات العظمى التي تمّت في عهد الشيخين, وبالأخص عمر بن الخطاب, هي الحل الذي يمكن أن يستندوا إليه في إقناع المسلمين بأن ما قامت به قريش ليس شراً, وان النتائج التي تمخّضت عنها القيادة القرشية لدولة الإسلام كانت باهرة إلى درجة تقنع المسلمين بتناسي الظلم الذي وقع على أهل بيت الرسول(ص). فتضخيم وتعظيم منزلة خالد بن الوليد, وعمرو بن العاص, وسعد بن أبي وقاص, وأبي عبيدة, ويزيد بن أبي سفيان وغيرهم , اعتماداً على الإنجازات الحربية, يقصد منه بشكل غير مباشر إعطاء هؤلاء نوعاً من الشرعية الإسلامية لموازنة عليّ بن أبي طالب. فهؤلاء جميعاً كانوا خصوماً لعليّ بشكل أو بآخر, وبدرجات متفاوتة.

أمثلة بارزة

 وبالاعتماد على الغزو والقتال فقط, يمكن اعتبار حتى الوليد بن عقبة بن أبي معيط, ابن أشرس أعداء النبي(ص),  الفاسق بالنص القرآني, وشارب الخمور, مجاهداً عظيماً! فهو كان له سهمٌ في " الجهاد " وقتال الأعاجم. وهو قاد الجيش الذي هاجم آذربيجان وأرمينيا سنة 26 للهجرة وعاد من هناك ظافراً بعد أن هزمت قواته أهلها.[4]
وكان حتى وهو رأس الجيش لا يتورّع عن شرب الخمر, ولم يؤثر ذلك على مسيرة المسلمين الظافرة. فمثلاً روى ابن عساكر عن علقمة أن الوليد بن عقبة , وهو على رأس جيشٍ للمسلمين, كان يشرب الخمر, إلى درجة أن جنوده فكروا في إقامة الحد عليه , ثم تراجعوا من أجل المصلحة:
" ... فشرب الوليد الخمرَ, فأردنا أن نحدّه.
فقال حذيفة : أتحدّون أميرَكم وقد دنوتم من عدوكم, فيطمعوا فيكم..."[5]

 وكذلك فإن عبد الله بن سعد بن أبي السرح, المرتد القديم الذي أنقذ في آخر لحظة من حكم الإعدام الذي أصدره عليه النبي(ص), كانت له صولات في الغزو والقتال.
 فهو قاد الجيش الذي توغّل في إفريقية سنة 27 للهجرة حتى وصل القيروان وعاد ظافراً.
ثم إنه غزا النوبة والسودان والحبشة سنة 31 للهجرة
كما انه كان قائد غزوة ذات الصواري البحرية العظيمة التي ألحق فيها المسلمون هزيمة مدوّية بالرومان وأسطولهم البحري سنة 34 للهجرة.[6]
 فهذا أيضاً يرغب الأمويون أن يصوروه بطلاً إسلامياً فاتحاً.
ومن الضروري التذكير بأن هذا الشخص كان من أخبث رجالات قريش منذ القدم. فبخلاف غيره من سادة قريش الذين رفضوا دعوة محمد(ص) وحاربوه علناً وبكل صراحة, فضّل هو محاربة محمد(ص) بطريقةٍ أخبث وألأم! فقد تظاهر بالإيمان بدعوة محمد(ص) وهو مستضعفٌ في مكة, وتقرّب منه إلى أن جعله من الذين يكتبون الوحي القرآني. وبعد ذلك ارتدّ وعاد إلى إخوانه في قريش ليقولَ لهم إن محمدا(ص) كذاب وليس نبيّا : " ما يدري ما يقول! إني لأكتب له ما شئت! "
وبسبب هذا الدور الدعائي الحقير الذي لعبه ابن أبي السرح, قرر الرسول(ص) إعدامه يوم فتح مكة : " قال رسول الله(ص): مَن وجد ابن أبي السرح فليضرب عنقه, وإن وجد متعلقا بأستار الكعبة"[7]
وكان المسلمون حريصين جداً على تنفيذ الأمر النبوي بقتله, لولا أنّ عثمان بن عفان خبّأه ثم أتى به إلى النبي(ص) فجأةً ليشفعَ له, فألحّ عليه كثيرا إلى أن أحرجه فتركه وأعرضَ عنه.

وكذلك فإن يزيد بن أبي سفيان كان من الذين لهم دورٌ فاعل في حركة الفتوحات في الشام, حين ولاّه أبو بكر قيادة أحد الجيوش الأربعة التي هزمت الرومان.
 ولا بأس من التذكير أن الإبن الأكبر لأبي سفيان, كان يفوق أباه عداءً وبُغضاً للرسول(ص). فهو كان من القلائل الذين حاولوا المقاومة يوم فتح مكة , فأصرّ على قتال النبي (ص) , رغم علمه باستسلام أبيه :
" ... يزيد بن أبي سفيان أسِر يوم الفتح في باب الخندمة. وكان خرج في نفر من قريش يحاربون ويمنعون من دخول مكة. فقتل منهم قومٌ وأسِرَ يزيدُ بن أبي سفيان..."[8]

وحتى عبيد الله بن زياد بن أبيه, السّفاك الذي قتل الإمام الحسين بن علي وأبادَ العائلة النبوية في كربلاء, كان له نصيبٌ في القتال ضد الأعاجم ودورٌ في التوسّع في الفتوحات . روى اليعقوبي عن أحداث أعوام 54-56 للهجرة بعد وفاة زياد :
" وصار عبيد الله بن زياد إلى خراسان, فبدأ ببخارى, وعليها ملكةٌ يقال لها خاتون, فقاتلهم حتى فتحها. ثم قطع نهر بلخ, وكان أول عربيّ قطع نهر بلخ, وحاربَه القومُ محاربة شديدة, وكان الظفر له"[9]

إلاّ أن المثال الأبرز على دور القيادات الناجحة ذات السلوك الشخصي المثير للجَدل, هما عمرو بن العاص وخالد بن الوليد.

 عمرو بن العاص

فكما هو معلوم, كان لابن العاص دورٌ بارز في معاداة النبي(ص) منذ بدء دعوته في مكة . وهو قد هجاه بالشعر وشهّرَ به , وهو كان مندوبَ قريش إلى النجاشي في الحبشة من أجل استرجاع جعفر بن أبي طالب ومَن معه من المسلمين اللاجئين , وهو كان له دورٌ في تأليب العرب على رسول الله(ص) يوم أحُد والخندق , وهو كان من  قيادات جيش قريش حينها. وبقي ابن العاص على تلك الحال من العداوة حتى الرمَق الأخير , قبيل فتح مكة, حين ضاقت عليه الأرض وشعر بأن محمداً منتصرٌ لا محالة, فقرر هو وخالد بن الوليد اللحاق بالرسول(ص) طوعاً حتى لا يؤخذ عنوة. وفيما يلي قصة إسلام عمرو بن العاص كما رواها هو حسبما جاء في سيرة ابن هشام :

" لماّ انصرفنا مع الأحزاب عن الخندق جمعتُ رجالاً من قريش, كانوا يرون رأيي,  ويسمعون مني, فقلت لهم : تعلمون والله اني أرى أمر محمدٍ يعلو الأمور عُلوّا منكراً, وإني قد رأيتُ أمراً, فما ترون فيه ؟
 قالوا : وماذا رأيتَ؟
 قال: رأيتُ أن نلحقَ النجاشيّ فنكون عنده, فإن ظهَرَ محمدٌ على قومنا كنّا عند النجاشيّ. فإنّا أن نكون تحت يديه أحب إلينا أن نكون تحت يدي محمد. وإن ظهَرَ قومنا فنحن مَن قد عرفوا, فلن يأتينا منهم إلاّ خير.
 قالوا: إن هذا لرأي.
 قلت فاجمعوا لنا ما نهديه له. وكان أحب ما يهدى إليه من أرضنا الأدم. فجمعنا له أدَماً كثيراً ثم خرجنا حتى قدمنا عليه.
فوالله إنا لعنده, إذ جاء عمرو بن أمية الضمري. وكان رسول الله قد بعثه إليه في شأن جعفر وأصحابه.
قال فدخل عليه ثم خرج من عنده.
 قال فقلت: لأصحابي: هذا عمرو بن أمية الضمري, لو قد دخلتُ على النجاشيّ وسألته إيّاه, فأعطانيه فضربتُ عُنقه. فإذا فعلتُ ذلك رأت قريشٌ أني قد أجزأتُ عنها حين قتلتُ رسولَ محمد.
 قال : فدخلتُ عليه فسجدتُ له كما كنت أصنع. فقال مرحباً بصديقي, أهديتَ إليّ من بلادك شيئا؟ قال : قلت : نعم أيها الملك. قد أهديت إليك أدَماً كثيراً ثم قرّبته إليه فأعجبه واشتهاه.
ثم قلت له : أيها الملك إني قد رأيت رجلاً خرج من عندك وهو رسول رجل عدو لنا.فأعطنيه لأقتله, فإنه قد أصاب من أشرافنا وخيارنا.
قال : فغضبَ ثم مدّ يده فضرب بها أنفه ضربة ظننت أنه قد كسره. فلو انشقّت لي الأرض لدخلت فيها فَرَقاً منه. ثم قلت له : أيها الملك, والله لو ظننت أنك تكره هذا ما سألته!
 قال : أتسألني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى لتقتله؟
قال : قلت : أيها الملك أكذلك هو ؟
 قال : ويحك يا عمرو أطعني واتبعه, فإنه والله لعلى الحق وليظهرنّ على مَن خالفه كما ظهر موسى على فرعون وجنوده.
 قال : قلت : أفتبايعني له على الإسلام؟ قال : نعم. فبسط يده فبايعته على الإسلام ثم خرجت إلى أصحابي وقد حال رأيي عما كان عليه, وكتمتُ أصحابي إسلامي.
ثم خرجتُ عامداً إلى رسول الله لأسلم, فلقيتُ خالدَ بن الوليد, وذلك قبيل الفتح, وهو مقبلٌ من مكة.
 فقلت : أين يا أبا سليمان؟
 قال : والله لقد استقام المنسم وإن الرجل لنبيّ, اذهب والله فأسلم, فحتى متى ؟
 قال : قلت : والله ما جئتُ إلاّ لأسلم.
قال : فقدمنا المدينة على رسول الله فتقدم خالد بن الوليد فأسلم وبايعَ. ثم دنوتُ فقلت : يا رسول الله إني أبايعك على أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي, ولا أذكر ما تأخّر.
قال : فقال رسول الله : يا عمرو , بايع فإن الإسلام يجُب ما كان قبله, وإن الهجرة تجُب ما كان قبلها. قال : فبايعته ثم انصرفت"[10]

ولكن رسول الله(ص) كان يميّز بين المهمات العسكرية, السياسية , والإدارية وبين مهمات الدعوة والتبليغ. وكان لا يمانع أن يستفيد من قدرات القرشيين,  المنضوين تحت لوائه كرهاً, وطاقاتهم.
 وطبّق رسول الله (ص) سياسته هذه بالفعل. ومن ذلك أنه أمّر عدوّه القديم , عمرو بن العاص, على سرية بعثها لإخضاع بعض قبائل العرب قرب الشام, عرفت باسم "ذات السلاسل". وكان جيش عمرو بن العاص يضم بصفوفه صحابة كبار مثل سعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد[11].
وسبب ذلك التأمير كان مصلحياً بحتاً. فقد كانت تربط عمرو بن العاص علاقة نسَب بقبيلة بلي , المقيمة في تلك المنطقة. فهم أخوال أبيه, ولذا كان من المتوقع أن يسمعوا له بشكل جيد.  والمهم أنه لما طلب عمرو بن العاص مَدَداً, أرسل له رسول الله(ص) بعثاً فيهم أبو بكر وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة, دون أن يوصي النبي(ص) بتغيير قيادة عمرو أو استبداله بواحد من هؤلاء المهاجرين القديمين.
 وفعلا استمرّ عمرو بالقيادة, وكان يؤمهم في الصلاة![12]
وهكذا يظهر أن رسول الله(ص) كان يهمه نجاح المهمة بالدرجة الأولى, ولذا استبقى عمرو بن العاص في المنصب, دون أن يكون ذلك إقراراً منه, على الإطلاق, بأن عمرو بن العاص أفضل في الإسلام من هؤلاء المهاجرين الأولين.

وكذلك فَعلَ أبو بكر حين بَعَث عمرو بن العاص أميراً على طلائع القوات التي أرسلها لفتح الشام فقال له :
" ... وقد رأيتَ تقديمي إياكَ على مَن هو أقدم سابقة منك, ومَن كان أعظم غناءً عن الإسلام وأهله منكَ..."[13]



خالد بن الوليد

تمثل غزوة مؤته مثالاً ساطعاً على التصرف العقلاني المبني على حسابات الربح والخسارة , الذي تميّز به خالد, بالمقارنة مع السلوك العقائدي المبني على العاطفة والتضحية والفداء.
 ففي تلك الغزوة, سقط القادة المتحمّسون الثلاثة : زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة , واحداً تلو الآخر, وهم الذين عيّنهم رسول الله(ص) في قيادة الجيش قليل العدد الذي أرسله إلى بلاد الشام.
 فتصرّفَ خالدُ بن الوليد , بدافع من شخصيته القيادية, بحكمةٍ شديدة, وقرر الانسحاب من الميدان حين رأى أنّ المواجهة محكومة بالفشل . لا شك أن ذلك كان سلوكاً مصلحياً صائباً, ولكنه غير عقائدي البتة.

وقد أورد ابن اسحق تفاصيل بطولات هؤلاء القادة الذين عينهم رسول الله(ص) في تلك البعثة:
" ثم مضوا حتى نزلوا معان , من أرض الشام. فبلغ الناسَ أن هِرقل قد نزل مآب من أرض البلقاء, في مئة ألفٍ من الروم, وانضم إليهم من لخم وجذام والقين وبهراء وبلى مئة ألف منهم......
فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا على معان ليلتين يفكرون في أمرهم وقالوا : نكتب إلى رسول الله(ص) فنخبره بعدد عدونا, فإما أن يمدنا بالرجال وإما أن يأمرنا بأمره, فنمضي له.
فشجّع القومَ عبدُ الله بن رواحة وقال : يا قوم : والله إن التي تكرهون, للتي خرجتم تطلبون: الشهادة. وما نقاتل الناسَ بعددٍ ولا قوةٍ ولا كثرة. ما نقاتلهم إلاّ بهذا الدين الذي أكرمنا الله به, فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظهورٌ وإما شهادة. فقال الناس : صدق والله ابن رواحة!
.... ثم التقى الناس واقتتلوا.  فقاتل زيد بن حارثة براية رسول الله(ص) حتى شاط في رماح القوم.
ثم أخذها جعفر فقاتل بها , حتى إذا ألحَمَه القتالُ اقتحمَ عن فرسٍ له شقراء فعقرها, ثم قاتل القومَ حتى قتل وهو يقول :
يا حبّذا الجنة واقترابها                  طيبة وبارداً شرابُها
والروم رومٌ قد دنا عذابها               كافرة بعيدة أنسابها
عليّ إذ لاقيتها ضرابها
 ... إن جعفر بن أبي طالب أخذ اللواء بيمينه فقطعت, فأخذه بشماله فقطعت, فاحتضنه بعضديه حتى قتل.... ويقال أن رجلاً من الروم ضربه يومئذٍ ضربة فقطعه بنصفين

... فلما قتل جعفر , أخذ عبد الله بن رواحة الراية, ثم تقدم بها, وهو على فرسه, فجعل يستنزل نفسه, ويتردد بعض التردد ثم قال :

أقسمتُ يا نفس لتنزلنّه                      لتنزلنّ أو لتكرهنّ
إن أجلبَ الناسُ وشدّوا الرنّه               مالي أراكِ تكرهين الجنة
وقال أيضا :
يا نفس إلاّ تقتلي تموتي                 هذا حمام الموت قد صُليتِ
وما تمنيتِ فقد أعطيتِ                   إن تفعلي فعلهما هُديتِ

..... ثم أخذ سيفه فتقدم فقاتل حتى قتل"[14]

وقد وصف البخاري ما حصل لجعفر يومئذ. فروى عن ابن عمر أنه:
" وقفَ على جعفر يومئذ وهو قتيل. فعددتُ به خمسين بين طعنةٍ وضربةٍ ليس منها شيء في دُبره , يعني في ظهره"[15] وروى البخاري في نفس الصفحة أيضا أنه وُجد في جسَد جعفر بضعٌ وتسعون من طعنة ورمية.

وأورد البخاري ردة فعل رسول الله(ص) على ما حصل بمؤتة كما يلي " خطب رسول الله(ص) فقال : أخذ الراية زيدٌ فأصيب ثم أخذها  جعفرٌ فأصيب ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب, ثم أخذها خالد بن الوليد عن غير إمرةٍ ففتح عليه. وما يسرّني أو قال ما يسرهم أنهم عندنا. وقال : وإن عينيه لتذرفان"[16]

وأورد ابن اسحق عن أسماء بنت عميس, زوجة جعفر بن أبي طالب , قولها " لما أصيب جعفر وأصحابه, دخل عليّ رسول الله(ص) وقد دبغتُ أربعين منّا, وعجنتُ عجيني , وغسلتُ بَنيّ ودهنتهم ونظّفتهم.
فقال لي رسول الله(ص) : ائتيني ببني جعفر .
فأتيته بهم. فتشمَمهم وذرفت عيناه.
فقلت : يا رسول الله. بأبي أنت وأمي ما يبكيك؟ أبلغكَ عن جعفر وأصحابه شيئ؟
قال : نعم أصيبوا هذا اليوم..... "[17]

وليس هناك أدنى شك في أن تصرف خالد بن الوليد يوم مؤتة كان سليماً جداً. فليس من المعقول أن يمضي جيش المسلمين في مواجهة غير متكافئة محكومة بالفشل إلى أن يُبادوا عن آخرهم. ولو لم يقد خالدٌ الجيشَ للإنسحاب المنظم من المعركة لكانت النتيجة مقتل معظم أفراد الجيش وفرار البقية فردياً وهيامهم في الجبال والوديان. وشخصٌ قياديٌ بطبعه مثل خالد لا يمكن أن يسمح بذلك. فهو يعتبر أنه قد جاء لإنجاز مهمة وتحقيق هدف. وليس احتمال القتل في ساحات الحرب والمعارك أمراً مستبعدأ بنظر خالد , ولكن في جميع الأحوال يجب أن تكون فرصة النجاح في المواجهة موجودة وحقيقية ولها أسس مادية, وهذا ما يقرره القائد الحكيم, وإلا تحوّل الأمر إلى نوعٍ من التضحية بالنفس , لا لزوم له . فالجيوش والمقاتلون يخرجون لا بهدف الاستشهاد والذهاب إلى الجنة بل لتحقيق الانجازات والانتصارات. هذا فكر خالد وتلك فلسفته.
وهذا الفكر والسلوك يختلف تماماً عن فكر وممارسة القادة الثلاثة الذين سبقوه. فهؤلاء كانوا أبطالاً وهو كان قائداً. وهؤلاء كانوا شهداءً وهو كان واقعياً. وهؤلاء لم يروا أمامهم سوى الجنة وهو نظر إلى الدنيا.

*****

والمثال الأبرز على أن سلوك خالد بن الوليد الشخصي لم يكن فيه الكثير من الإلتزام الأخلاقي هو في الحادثة المشهورة والتي تتعلّق بمالك بن نويرة.
 فبعد أن فرغ خالد بن الوليد من إخضاع قبائل فزارة وغطفان وأسد وطيئ لسلطة الخليفة الجديد أبي بكر, سار يريد بطاح مكة وبها مالك بن نويرة. وملخّص ما جرى هو أن خالداً رأى زوجة مالك فأعجبته فقرر بكل بساطة إعدام زوجها حتى يتمكن من امتلاكها, على الرغم من أن زوجها وقومَه كانوا مسلمين ومقيمين للصلاة ومقرّين للزكاة! وهذا ما حصل, فتم بأمر خالد إعدام مالك بن نويرة, وقام خالد بالدخول بزوجته في ذات الليلة! لم يُراعِ خالد أخلاق الإسلام ولا أهداف الرسالة النبوية ولا تعليمات الخليفة الجديد ولا حتى أخلاق العرب في الجاهلية! ولم ينتظر حتى أن تقضي الأرملة عدّتها! ومن السهل تصوّر شعور تلك المرأة المسكينة وهي ترى نفسها تساق إلى القائد العسكري ليدخل بها وهو قد انتهى لتوّه من قطع رأس زوجها!

وفيما يلي ما رواه بعض المؤرّخين حول هذه الواقعة :

روى اليعقوبي حول موضوع مالك ابن نويرة " ... فأتاه مالك بن نويرة يناظره, واتبعته امرأته. فلمّا رآها خالد أعجبته.
 فقال : والله لانلت في مثابتك حتى أقتلك.
 فنظر مالكاً, فضربَ عُنقه وتزوج امرأته.
فلحق أبو قتادة بأبي بكر فأخبره الخبر. وحلف ألاّ يسير تحت لواء خالد لأنه قتل مالكاً مسلماً.
فقال عمر ابن الخطاب لأبي بكر : يا خليفة رسول الله, إن خالداً قتل رجلاً مسلماً وتزوج امرأته من يومها. فكتب أبو بكر إلى خالد, فأشخَصَه. فقال خالد : يا خليفة رسول الله, اني تأوّلتُ , وأصبتُ وأخطأتُ"[18]

وذكر البلاذري :
" إن مالكا قال لخالد : إني والله ما ارتددتُ. وشهد أبو قتادة الأنصاري أن بني حنظلة وضعوا السلاح وأذنوا. فقال عمر بن الخطاب لأبي بكر رضي الله عنهما : بعثتَ رجلا يقتل المسلمين ويعذب بالنار"[19]

وروى ابن كثير والطبري:
" لم يزل عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحرّض الصّديق ويذمره على عزل خالد عن الإمرة , ويقول إن في سيفه لرهقاً , حتى بعث الصديق إلى خالد بن الوليد فقدم عليه المدينة, وقد لبس درعه التي من حديد, وقد صدئ من كثرة الدماء, وغرز في عمامته النشاب المضمخ بالدماء .
فلما دخل المسجد  قام إليه عمر بن الخطاب فانتزع الأسهم من عمامة خالد فحطمها وقال : أرياءً قتلتَ امرءً مسلماً ثم نزوتَ على امرأته؟! والله لأرجمنّك بالجنادل!
وخالدٌ لا يكلمه , ولا يظن إلاّ أن رأي الصديق فيه كرأي عمر, حتى دخل على أبي بكر فاعتذر إليه فعذره وتجاوز عنه ما كان منه في ذلك. وودى مالكَ بن نويرة.
فخرج من عنده وعمر جالس في المسجد. فقال خالد : هلمّ إليّ يا ابن أم شملة! فلم يرد عليه وعرف أن الصديق قد رضي عنه.
واستمر أبو بكر بخالد على الإمرة, وان كان اجتهد في قتل مالك بن نويرة, وأخطأ في قتله"[20]

*****
وقام خالدٌ بالزواج من بنت مجّاعة الحنفي, بعد مقتل عدد كبير من قومه الذين هُزموا في اليمامة. وقد روى الطبري أن أبا بكر كتب له لما بلغه خبر زواج  خالد " يا ابن أم خالد: إنك لفارغ تنكح النساءَ, وبفناء بيتكَ دمُ ألفٍ ومئتي رجل من المسلمين لم يجفف بعد"[21]

*****

وكذلك لم يتورع خالد عن استخدام أسلوب القتل حرقاً بحق أعدائه . ذكر البلاذري عن هجوم خالد على جمع لبني سليم" وجعل خالد يومئذ يحرق المرتدين. فقيل لأبي بكر في ذلك فقال : لا أشيم سيفاً سلّه الله على الكفار" [22]
*****

ولا بأس أيضاً من التذكير بحادثة سابقة لخالد حصلت أيام الرسول(ص).  وهي ما حصل من قتل في بني جذيمة بأمر من خالد بن الوليد. وهو ما دفع رسول الله(ص) إلى أن يرفع صوته مُستنكراً ما قام به قائلاً:
 " اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد"  ثلاث مرات!
 وفبما يلي النص كما ورد في صحيح البخاري:
" بعث النبي(ص) خالد بن الوليد إلى بني جذيمة فدعاهم إلى الإسلام  فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا . فجعلوا يقولون صبأنا صبأنا .
فجعل خالد يقتل منهم ويأسر ودفع  إلى كل رجل منا أسيره حتى إذا كان يوم أمر خالد أن يقتل كل رجل منا أسيرَه.
فقلتُ والله لا أقتل أسيري ولا يقتل رجلٌ من أصحابي أسيره!
 حتى قدمنا على النبي(ص) فذكرناه فرفع النبي(ص) يده فقال : اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد. مرتين"[23]

وقد وردت نفس القصة في سيرة ابن هشام بتفصيل أكثر , حيث أن الرسول(ص) بعد فتح مكة :
" بعث فيما حول مكة السرايا تدعو إلى الله عز وجل, ولم يأمرهم بقتال.
وكان ممن بعثَ خالدُ بن الوليد وأمَرَه أن يسير بأسفل تهامة داعياً, ولم يبعثه مقاتلاً...... فوطئوا بني جذيمة بن عامر بن عبد مناة بن كنانة. فلما رآه القوم أخذوا السلاح.
 فقال خالد : ضعوا السلاحَ, فإن الناس قد أسلموا.
قال ابن اسحق : فحدثني بعض أصحابنا من أهل العلم من بني جذيمة, قال : لما أمرَنا خالدُ أن نضع السلاح قال رجلٌ منا يقال له جحدم : ويلكم يا بني جذيمة! إنه خالد والله! إنه خالد والله! ما بعد وضع السلاح إلاّ الإسار, وما بعد الإسار إلاّ ضرب الأعناق, والله لا أضع سلاحي أبداً.
 قال : فأخذه رجالٌ من قومه, فقالوا : يا جحدم : أتريد أن تسفك دماءنا؟ إن الناس قد أسلموا ووضعوا السلاح ووضعت الحرب وأمِنَ الناس. فلم يزالوا به حتى نزعوا سلاحه. ووضع القوم.....
 فلما وضعوا السلاح أمر بهم خالد عند ذلك فكتّفوا , ثم عرضهم على السيف فقتل من قتل منهم.
فلما انتهى الخبر إلى رسول الله رفع يديه إلى السماء  ثم قال : اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد. ....... ثم دعا رسول الله عليّ بن أبي طالب فقال : يا عليّ: أخرج إلى هؤلاء القوم فانظر في أمرهم واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك.
 فخرج عليّ حتى جاءهم ومعه مالٌ قد بعث به رسول الله. فوَدى لهم الدماءَ وما أصيب لهم من الأموال, حتى أنه ليَدِي لهم مَيلغة الكلب. حتى إذا لم يبقَ شيء من دم ولا مال إلاّ وداه, بقيت معه بقية من المال فقال لهم عليّ حين فرغ منهم : هل بقي لكم بقية من دم أو مال لم يودَ لكم؟
 قالوا : لا .
 قال : فإني أعطيكم هذه البقية من المال احتياطاً لرسول الله مما يعلم ولا تعلمون.
 ففعل ثم رجع إلى رسول الله فأخبره الخبر فقال : أصبتَ وأحسنتَ!
 قال : ثم قام رسول الله فاستقبل القبلة قائما شاهراً يديه حتى إنه ليرى مما تحت منكبيه, يقول : اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد, ثلاث مرات" [24]

ومما يلفت النظر في هذا النص , مدى الرعب الذي اجتاح بني جذيمة من شخص خالد بن الوليد والذي عبّر عنه قائلهم : "إنه خالد والله" مرتين.

 ويمكن تفسير ما قام به خالد من قتل متعمد لهؤلاء القوم دون أي مبرر إذا عُرفت حادثة قديمة حصلت قبل الإسلام , وتتلخص في رحلة تجارية قام بها نفرٌ من قريش فيهم عفان بن أبي العاص وعوف بن عبد عوف والفاكه بن المغيرة (عم خالد بن الوليد) إلى اليمن, وحصلت خلالها مشكلة مع قوم من بني جذيمة أسفرت عن مقتل عوف والفاكه . وقد حلت المشكلة في حينها بدفع بني جذيمة الدية لقريش[25] , ولكن الوليد بن المغيرة وهو على فراش الموت لم ينسَ أن يوصي بنيه الذين جمعهم حوله قائلاً:
 " .... ودم أخي الفاكه بن المغيرة في بني جذيمة بن عامر بن عبد مناة بن كنانة , فلا يفوتنكم"[26]

إذن قام خالدٌ باستغلال المهمة التي تولاّها في الإسلام لتصفية حساب قديم جداً مع بني جذيمة, ونفذ وصية أبيه, ثأراً لعمّه الفاكه, دون مراعاة لتعليمات الرسول (ص) ولا لسماحة الإسلام.

وقد ذكر الواقدي أن الذين قتلهم خالد من بني جذيمة بلغوا 30 رجلاً , وأنه من شدّة بشاعة ذلك الموقف, رفض الأنصار والمهاجرون الذين كانوا ضمن جيش خالد تنفيذ أمره, فأطلقوا سراح أسراهم.
وذكر الواقدي أن بني جذيمة كانوا مسلمين حقيقيين , لهم مساجد ويقيمون فيها الصلاة, وأنه بسبب ذلك عاب عدد من الصحابة على خالد قرار القتل الذي اتخذه وأصر عليه.
فمثلا قال له أبو أسيد الساعدي " اتّقِ الله يا خالد! والله ما كنا لنقتل قوماً مسلمين" .
وقال له عبد الرحمن بن عوف " يا خالد, أخذتَ بأمر الجاهلية! قتلتهم بعمّك الفاكه. قاتلك الله! "[27]
ولكن خالد لم يأبه بأحد, ونفّذ قرار الإعدام بلا شفقة بحق هؤلاء الذين استسلموا لثقتهم بحسن سلوك جيوش الرسول(ص).

*****
ولم يكن خالد يعرف قيوداً أو محظورات في الحرب. فكل شيء مباح في سبيل الظفر. فمثلاً جاء في سيرة ابن هشام في كلام ابن اسحق عما تلا غزوة حنين " أن رسول الله مرّ يومئذ بامرأة وقد قتلها خالد بن الوليد. والناس متقصّفون عليها. فقال : ما هذا ؟
فقالوا : امرأة قتلها خالد بن الوليد.
فقال رسول الله لبعض من معه : أدرك خالداً فقل له : إن رسول الله ينهاك أن تقتل وليداً أو امرأة أو عسيفا"[28].

*****

وأخذاً بعين الاعتبار هذه المآخذ والأمثلة العديدة على مسلك خالد بن الوليد, وأيضاً دوره الكبير في الفتوحات والحروب, خاصة في العراق والشام, فإن الباحثَ المنصفَ لا بد له أن يخرج بالنتيجة التالية :
يستحق خالد بن الوليد الثناءَ والتقريظ, والتقدير العظيم, على قيادته الفذة والناجحة للجيوش والقوات, وإدارته للرجال والمقاتلين, وعبقريته المميزة في مواجهة أشرس الأعداء والانتصار عليهم في الميدان, وعلى جرأته وقوته وذكائه . وخالدٌ في هذا المجال, السياسي والعسكري, مَثلٌ أعلى وذروة سامقة.
ولكن هذا الحُكمَ لا يجوز أن يمتدّ إلى النواحي الروحية والأخلاقية, ولا الدينية والشرعية. لقد شابت سلوكيات خالد , كشخص , العديد من المخالفات الصارخة لتعليمات الشرع الصريحة, وخالطت سيرته الكثير من المثالب , ولم يكن يتصف لا بالزهد ولا بكثرة الورع والعبادة , ولا بالحس الإنسانيّ المرهف.

فالفضلُ يُذكرُ لأهلِه , وفي موضِعِه.  












[1] صحيح البخاري باب إن الله يؤيد الدين بالرجل الفاجر (ج4 ص 88)
[2] مغازي الواقدي ج1 ص224
[3] ويمكن تشبيه ذلك اليوم بملاكمين يدخل أحدهما الحلبة ملتزماً بقواعد اللعبة ومرتديا قفّازين, بينما خصمه يحمل بيديه خنجرا! الأول ألزم نفسه بالأصول, بينما لم يتورّع الثاني عن مخالفتها وعن استخدام أي وسيلة - غير شرعية - للفوز!
[4] تاريخ الطبري (ج3 ص307)
[5] تاريخ دمشق لابن عساكر (ج63 ص239)
[6] يمكن مراجعة أخبار غزواته في تاريخ دمشق لابن عساكر (ج29 ص36-39)
[7] تاريخ دمشق لابن عساكر (ج29 ص33-34)
[8] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (ج17 ص256)
[9] تاريخ اليعقوبي (ج2 ص236)
[10] السيرة النبوية لابن هشام (ج3 ص250)
[11] كتاب المغازي للواقدي (ج2 ص770)
[12] السيرة النبوية لابن هشام (ج4 ص239)
[13] تاريخ دمشق لابن عساكر (ج2 ص66)
[14] السيرة النبوية لابن هشام (ج4 ص11-15 )
[15] صحيح البخاري باب غزوة مؤتة (ج5 ص 182)
[16] صحيح البخاري باب من تأمّر في الحرب من غير إمرة (ج4 ص 88)
[17] السيرة النبوية لابن هشام (ج4 ص17)
[18]  تاريخ اليعقوبي (ج2 ص132)
[19] فتوح البلدان للبلاذري (ج1 ص 117)
[20]  البداية والنهاية لابن كثير (ج6 ص355). وتاريخ الطبري (ج2 ص504).  وودى أي دفع الدية. ويبدو أن شعور الازدراء تجاه عمر والذي عبر عنه خالد بقوله : يا ابن أم شملة! له جذور قديمة. فمثلا روى ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة (ج12 ص184) , أن عمر بن الخطاب , وهو ابن 18 سنة, خرج مع والد خالد, الوليد بن المغيرة, إلى الشام كأجير له , وهو يخدمه ويرفع أحماله ويحفظ متاعه ويرعى إبله. وخالد حتما يريد أن يذكر عمر بذلك.
[21] تاريخ الطبري (ج2 ص519)
[22] فتوح البلدان للبلاذري (ج1 ص 116). وأيضاً سير أعلام النبلاء للذهبي (ج1 ص372).
[23] صحيح البخاري باب بعث النبي خالد بن الوليد إلى بني جذيمة (ج5 ص  203)
[24] السيرة النبوية لابن هشام (ج4 ص61-62).وميلغة الكلب هي العظمة اليابسة التي يعضها.
[25] كتاب المنمق في اخبار قريش لمحمد بن حبيب البغدادي (ص149)
[26] كتاب المنمق في اخبار قريش لمحمد بن حبيب البغدادي (ص192)
[27] كتاب المغازي للواقدي (ج3 ص880)
[28] السيرة النبوية لابن هشام (ج4 ص 88). ومثل ذلك رواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين (ج2 ص122)