أسطورة عبد الله بن سبأ



 أسباب نشوء قصة عبد الله بن سبأ

هناك ارتباط وثيقٌ بين ما حصل في عهد الخليفة عثمان بن عفان من أحداث, وبين نشوء قصة ابن سبأ.
 فعثمان يسبّب حرجاً بالغاً لكل مَن يتبنّى خط الفِكر الرسمي الداعم للحاكمين عبر العصور. وعملية التوفيق بين كونه "من المبشرين بالجنة" وبين تاريخه وسيرته في الحكم هي في غاية الصعوبة, لأن تجاوزاته وفساد سياساته بلغت حَداً صارخاً لا ينفع معه أسلوب الترقيع ولا حتى التأويل بحسن النية.
 ولذلك كان لا بد من أسلوب آخر : النهي عن الخوض في الموضوع! هكذا وبكل بساطة يُفرَضُ حجرٌ على التفكير, بحجة عدم الخوض في الفتنة! وفي هذا تناقضٌ موضوعي : لأن الصحابة "المبشرين بالجنة" لا بد أن تكون سيرتهم مُبهرة, ولا بد أن يُشجّع كل المسلمين على النظر فيها ليَرَوا كيف كانت رائعة وكم هي جديرٌة بالاقتداء! ولكن لأن النهي عن التفكير ليس أمراً سهل القبول على الكثيرين, كان لا بد من تقديم صورة معينة لعهد عثمان وتبريرٍ ما, لما جرى. وبما أن عثمان خليفة "راشد", كان من اللازم الدفاع عن سياسته مهما كانت. وهنا تكمن المعضلة! فسياسة عثمان تجاه رعيته من المسلمين يصعب جداً الدفاع عنها أو تبريرها  باسم الإسلام. وكذلك الحال بالنسبة لما قامت به أم المؤمنين عائشة ومعها الصحابيان الكبيران طلحة والزبير.

لجأ الفكر التقليدي المُهادن للحكام بعدها إلى أسلوبه المفضل في مواجهة هكذا معضلات: توجيه اللوم إلى عدو خارجي, وإظهار الأمر وكأن المسلمين أبرياء طاهرون, وذوو نوايا حسنة, ولكنهم تعرّضوا لمؤآمرات من الأعداء الحاقدين الذي خلقوا المشاكل بينهم لتقويض الإسلام!  وقد عبّر الإمام أحمد بن حنبل عن ذلك فقال وهو يلخص الأحداث الجسيمة في عهد عثمان" وقامت خلافة ذي النورين, حَييّ هذه الأمة وحليمها وأوصلهم لرحمه وأتقاهم لربه, كما قالت فيه عائشة رضي الله عنها. وكانت أيامُ خلافته أنضرَ أيام الخلافة الراشدة رغدا وأمنا . شرّق فيها الجهاد وغرب وأبحرَ وأصحرَ وأنجدَ وأتهمَ. ودخل الإسلام في الوبر والمدر. ولكن الفتنة لم تنم بل حفرت لنفسها مدخلا في حصن الإسلام وباضت فيه وأفرخت, تطير أفراخها هنا وهناك وتبني أعشاشها في عواصم الإسلام ومدنها, يغذيها أشرّ خلق الله :  اليهود السبأية. فتقوّل المفسدون على ذي النورين أكاذيب ونسجوا حوله الأباطيل. جرّأهم على ذلك حلمه وكرم طبعه, فذبحوه في بيته وهو يتلو كتاب الله كما تذبح الحملان"[1]

 ويكون من الرائع لو أن هذا العدو المُفسِدَ المتآمرَ يهودي ! فعندها ستكون الحبكة مثيرة والمشهد درامياً: المسلمون يحبون بعضهم البعض, يحكمهم خليفة راشدٌ وَرِع, ومجتمعهم تسوده قيمُ العدالة والمساواة, وليس في الإمكان أروع مما كان. وبينما هم كذلك يبدأ اليهود الخبثاء في وضع مؤآمرةٍ لئيمة لتفريقهم وزرع الشقاق فيما بينهم. وينجح اليهود الخبثاء في العَبَث بعقول المسلمين واختلاق الأكاذيب وإقناع المسلمين الطيبين بها, فتنتشر بينهم الحروب والفتن والقتل. والأصابع اليهودية الخفيّة تمسك بخيوط الأحداث وتحرّكها وتزيدُ استعارَ نيران الفتنة التي انخرط فيها وللأسف بعض كبار الصحابة, عن حسن نية وبهدف الإصلاح.
كان عليّ يحب معاوية, وكانت عائشة تكنّ ودّا لعليّ, وكان عمّار يوالي عثماناً وكان معاوية يقدّر أبا ذرّ,ولم يكن طلحة يريد أن يحارب علياً, بل إن يزيداً حزن لموت الحسين! فما الذي حصل إذن؟ مجرّد سوء تفاهم صنعه الخبثاء الغامضون.

 هكذا وبكل بساطة يريد الفكر التقليدي أن يمحو كل حقائق التاريخ[2]. وعفا الله عما مضى! هذه الصورة الكاذبة عن الأحداث الجسيمة التي هزّت الإسلام والمسلمين تناسب تماماً ما يرمي إليه الفكر التقليدي من رفضه المُعيب إتّخاذ موقف نصرة الحق, وتأييده الضمني لكل الحكام الطغاة. فليس هناك إذن ظلَمَة ولا مظلومون, وكل أطراف الصراع على قدم المساواة. ويصبح التقاعسُ والتخاذلُ أيدولوجية يُنظّر لها!
فالفكر الداعم للحاكمين يعرف جيداً أن المسلم ذا الفطرة السليمة والقلب النقي لا يمكن أن يقبل بالظلم ولا أن يُقرّ بحكم الفاسدين ولا أن يساوي بين آل رسول الله(ص) وبين طلقاء قريش. فكان ضرورياً أن لا يعرف حقيقة ما حصل , وصار الاختلاقُ حاجة موضوعية لهذا الفكر.

وفي هذا الإطار تندرج قصة " عبد الله بن سبأ". وقد شاءت الأسطورة أن يكون "عبد الله بن سبأ" هذا يهودياً من صنعاء, إعتنقَ الإسلامَ ظاهراً لكي يكيد له من الباطن! وتمضي الأسطورة لتقول أن "عبد الله بن سبأ" كان أساس الفتنة عن طريق التشنيع على عثمان وسياسته وتحريض المسلمين على التمرّد على الخليفة. ويُصوّر "عبد الله بن سبأ" هذا كشخصٍ ذي قدراتٍ عجيبة على التأثير. فتارة يتحدّثون عن نشاطاته في مصر, ومرة أخرى عن مؤآمراته في الكوفة, عن اجتماعاته في البصرة, وعن محاولاته في الشام, إلى أن توصف مواقف له في المدينة[3]! و"عبد الله بن سبأ" هذا يتحكّم في تصرّفات صحابة كبار من أمثال عمار بن ياسر و أبي ذر الغفاري, ويفسد عقولهم فينساقون وراء ضلالِه ويتبنّون دعوته! ونجح "عبد الله بن سبأ" هذا في تأسيس الفكر الشيعي عن طريق ترويجه لمقولة أن علياً كان وصيّ محمد, وأنّ مَن قبله إغتصبوا حقّه. وأقنعَ "عبد الله بن سبأ" هذا كثيراً من المسلمين بأفكار الغلوّ في عليّ حتى صاروا يُعرفون  بِ"السَبئيّة"[4]!

ويمكن القول أن الفتنة التي قامت زمن عثمان وانتهت بقتله قتلة بشعة, وما تبعها من حربٍ دمويةٍ يوم الجمل كان أبطالها شخصيات مرموقة في الإسلام, كانت تنطوي على " مشاهد " لا يتحملها " الضمير الإسلامي " ولا يمكن أن يقبل بتحميل مسؤوليتها لأحدٍ من الصحابة. فجاءت روايات سيف بن عمر التي روّجها الطبري في تاريخه لتخفف الحِملَ على " الضمير الإسلامي " باختراعها لشخصية ابن سبأ, اليهودي المتآمر.

وهناك هدفٌ ظاهرٌ من تبني ونشر قصة ابن سبأ, يرتبط بشكل وثيق بالصراعات المذهبية بين السنة والشيعة خلال القرون الإسلامية الأولى, والتي بلغت حداً مؤسفاً من القسوة والذيوع. فيريدُ ناشرو قصص ابن سبأ أن يقولوا بأن مذهب الشيعة بدعة اخترعها يهودي ماكرٌ ادّعى حبّ عليّ وآل البيت كذباً ونفاقاً بهدف الإساءة للإسلام.
فقصة ابن سبأ كلها جزء من محاولات تلطيخ سمعة الخصوم ,والدعاية المذهبية, ومشاكل التنافر بين الفِرَق.

 مصدر أخبار قصة ابن سبأ

والبحث التاريخي الجدّي حول شخصية "عبد الله بن سبأ" هذا يُرجّح كونه مجرّد أسطورة. فالمصادر التاريخية التي أوردت أخباراً عنه ترجع إلى ما رواه ابن جرير الطبري في تاريخه وتنقل عنه. ومن هؤلاء مثلاَ ابن الأثير وابن كثير وابن خلدون وغيرهم من المتأخرين من أصحاب التاريخ. وأمّا مصادر الطبري في الرواية عن "عبد الله بن سبأ" فهي كلها منقولة عن كتاب ألّفه شخص يدعى سيف بن عمر التميمي ( توفي عام 180 للهجرة ). فليس هناك نقلٌ متواتر للروايات عن دوره في أحداث الفتنة ولا أسانيد متعددة, بل كلها تنحصر في نفس المصدر وهو سيف بن عمر هذا! وحتى بدون الخوض في شخصية سيف بن عمر هذا إن كان ثقة أم لا, فإن مجرّد كون أخبار "عبد الله بن سبأ" ونشاطاته محصورة فيه وحده, تجعل من إمكانية كون هذه الشخصية من نسج الخيال احتمالاً وارداً.[5]

وقد قام د. عدنان ملحم بدراسة المصادر التي اعتمدها الطبري ( توفي عام 310 للهجرة) في تاريخه حول أخبار وروايات الفتنة الكبرى[6], وفيما يلي مختصرها :

أخذ الطبري عن سيف بن عمر 746 رواية غطت الفترة الممتدة ما بين عام 10 إلى 36 للهجرة, منها 97 رواية عن الفتنة زمن عثمان و 87 رواية عن الصراع بين معسكر عليّ ومعسكر عائشة.

وفي المقابل, كانت بقية المصادر التي اعتمدها الطبري في أخباره عن الفتنة كما يلي :
محمد بن شهاب الزهري (توفي عام 124 للهجرة): أخذ عنه 14 رواية.
عوانة بن الحكم (توفي عام 147 للهجرة) : أخذ عنه 9 روايات.
أبو مخنف , لوط بن يحيى (توفي عام 157 للهجرة) : أخذ عنه 125 رواية.
هشام الكلبي (توفي عام 204 للهجرة) : أخذ عنه 5 روايات.
أبو عبد الله الواقدي (توفي عام 207 للهجرة) : أخذ عنه 75 رواية.
علي بن محمد المدائني (توفي عام 225 للهجرة) : أخذ عنه 46 رواية.

ومن خلال هذا العرض, يبدو واضحاً مدى اعتماد الطبري على روايات وأقوال سيف بن عمر التميمي فيما يتعلّق بأحداث الفتنة, وبالأخصّ في ما حصل أيام عثمان والصراع بين معسكري عليّ وعائشة. وكان اعتماد الطبري على روايات سيف بن عمر فيما يتعلق بثورة الأمصار على عثمان, وحرب الجمل, كلياً! بحيث أهملَ كل الروايات التي ذكرها الآخرون واستبقى روايات سيف وحدها تقريباً. لقد استفرغ الطبري في تاريخه كتابَ سيف بن عمر حتى أصبحت الروايات التي عالجت الفترة الزمنية بين عامي 10 و 36 للهجرة – عدا روايات قليلة – وكأنها كتاب سيف!


لماذا اعتمد الطبري روايات سيف ؟

ويمكن تخمين السبب الذي جعل الإمام الطبري يعتمد على روايات سيف دون غيرها, وهو ببساطة أن هذه الروايات تنسجم مع وجهة نظره الشخصية تجاه الصراع الذي جرى, والتي تتلخّص في اتهام غوغاء الأمصار بقتل عثمان خدمة لمصالحهم, وتنتقد مواقف بعض الصحابة وأبنائهم ممن كانوا في معسكر عليّ من أمثال عمار بن ياسر ومحمد بن أبي بكر ومحمد بن أبي حذيفة وتحميلهم مسؤولية التحريض على عثمان, ومحاولة رفع اللوم عن الصحابة الذين خرجوا على عليّ فيما بعد يطالبون بدم عثمان مثل عائشة والزبير وطلحة, وتبرئة الصحابة من تهمة التقاعس عن نصرة الخليفة. وأيضاً رفع اللوم عن أهل المدينة الذين لاذوا بالصمت تجاه ما جرى لعثمان. وكذلك إبراز رغبة عائشة (وعليّ) في ملاحقة قتلة عثمان, وأخيراً والأهم, اتهام "عبد الله بن سبأ" وأتباعه بالمسؤولية المباشرة عن معركة الجمل وما نجم عنها من قتلى وجرحى, مبرّئاً الصحابة من المسؤولية عن هذا الصراع الدامي.

وللإنصاف, ينبغي القول أن الطبري, وهو المؤرخ الموسوعيّ العظيم, لم يكن يستطيع أن يتجاهل وجود كتابٍ متاحٍ بين يديه عن أحداث الفتنة , وهو كتاب " الجمل ومسير عائشة وعلي"[7]  الذي ألفه سيف بن عمر وجعله مخصصاً للتحضيرات لتلك المعركة وكل تفاصيلها. ولكن ما يؤخذ عليه هو إفراطه في الاعتماد على ذلك المصدر وإهماله للمصادر الأخرى, بالإضافة إلى عدم اهتمامه بنقد مضمون روايات سيف وإبراز تناقضاتها.

تفنيد قصة ابن سبأ

من المشروع التساؤل عن السبب الذي يجعل كل الإخباريين السابقن للطبري, والذين كانوا مصدر المادة التاريخية, يتجاهلون أي ذكر ل "عبد الله بن سبأ" هذا, باستثناء سيف بن عمر؟
فلو كان ابن سبأ هذا شخصية حقيقية ذات وجود وتأثير في أحداث الفتنة, لما كان من المتصوّر أن كل الإخباريين الآخرين يمكن أن يُجمِعوا على إهمال ذكره.  فلا يعقل أن الإخباريين الستة الأخرين , الذين يفصل قرن كامل بين تاريخ وفاة أولهم عن آخرهم, كلهم أجمعوا وتواطؤوا على نفي وجود هذه الشخصية, وأن سيف بن عمر هو وحده الذي انتبه لها.

وحول مدى مصداقية سيف بن عمر ورواياته, هناك إجماعٌ بين المحدّثين على تضعيفه والطعن فيه. وقد تراوحت الأوصاف التي أطلقها ابن معين والرازي والذهبي وابن حجر على رواياته ما بين "متروكة" و "ساقطة" و " ليست بشيء" , واتهموه بوضع الأحاديث, واعتبره ابن حبان " زنديقاً"[8]

وحتى مع التسليم بأن المعايير التي يضعها المحدّثون بشأن الرواة صارمة, ولا تنطبق بالضرورة على رواة التاريخ والإخباريين, إلاّ أنه لا بدّ من الشك الشديد في كل ما يرويه سيف بن عمر بسبب ذلك الانفراد العجيب والمثير للريبة حول أخبار شخصيةٍ يُنسَبُ لها دورٌ رئيسي في أحداث هامةٍ جداً في صدر الإسلام.

ومن المفيد أيضاً الإشارة إلى أن المؤرخين البارزين الآخرين الذين وصلتنا أعمالهم , عدا الطبري, والذين هم سابقون له, لم يعتمدوا على الإطلاق سيف بن عمر كمصدر للأخبار , وبالتالي لم يرد في مؤلفاتهم أي ذكر لعبد الله بن سبأ هذا. وذلك ينطبق على البلاذري, الذي توفي عام 279 للهجرة واعتمدَ تقريباً على نفس مصادر الطبري باستثناء سيف ( المدائني, أبو مخنف, الواقدي , الزهري, عوانة بن الحكم, الهيثم بن عدي, وهشام الكلبي). وكذلك ينطبق على اليعقوبي ( توفي عام 292 للهجرة) وابن قتيبة (توفي عام 276 للهجرة), وأبي حنيفة الدينوري ( توفي عام 282 للهجرة), وابن شبة النميري ( توفي 262 للهجرة), وخليفة بن خياط ( توفي 240 للهجرة). وأيضاً لم يذكره ابن سعد (توفي 230 للهجرة) في طبقاته.

وقال د. عدنان ملحم " لم تحفظ كتب التراجم أي معلومات عن رواة السبئية "[9]. وهؤلاء هم الذين يروي سيف بن عمر أخبار ابن سبأ نقلاً عنهم , وهم : يزيد الفقعسي, ومحمد بن عبد الله بن سواد بن نويرة, وطلحة بن الأعلم الحنفي, وأبو حارثة محرز العبشمي, وأبو عثمان بن أسيد الغساني, وقيس بن يزيد النخعي والأغر العجلي.

ومن ناحية أخرى, ينبغي التفكير في أنه لو كان ابن سبأ هذا حقيقياً, ومتنقلاً,حسب روايات سيف , بين البصرة والكوفة والمدينة ومصر والشام, ومنهمكاً في اجتماعاتٍ مع أتباعه ومريديه لنسج خيوط مؤآمرة على الخليفة, فكيف لم يُلقَ القبضُ عليه؟ لماذا لم يعتقله ابن أبي السرح بدلاً من الكتابة إلى عثمان بشأنه؟ وهل عجزت أجهزة مخابرات معاوية عن معرفة النشاط التحريضي الذي يمارسه ابن سبأ؟ وكيف يمكن للوليد بن عقبة أو سعيد بن العاص أن يتركا هذا اليهودي يصنع المشاكل لهما في الكوفة بحرّية؟ لقد كان سعيد بن العاص , بالتنسيق مع عثمان, حريصاً على اعتقال كل من يشكّ به من وجوه الناس وأشرافهم, ونفيه إلى الشام , حيث العقاب عند معاوية, فكيف لم يوقع أي عقاب بهذا اليهودي؟ ولماذا تركه ابن عامر يسرح ويمرح في البصرة رغم الخطر الأمني الكبير الذي يشكله؟ وأين كل أجهزة "العَسَس" في زمن عثمان؟
لم يتردد عثمان وولاته في إيقاع أقسى ألوان العقاب حتى بالصحابة الكبار الذين كانوا مشهورين بسبقهم في الإسلام وتضحياتهم مع الرسول(ص) . ويكفي ذكر ما جرى لعبد الله بن مسعود وعمار بن ياسر وأبي ذر للتأكيد على أنه حتى أبطال الإسلام لم يكونوا يتمتعون بالحصانة في عهد عثمان. فكيف بيهودي من صنعاء ادّعى الإسلام ؟ لا يمكن تصوّر أن تكون له أيّ حصانة على الإطلاق. ولم يكن يوجد ما يمكن أن يردع معاوية, مثلاً, عن اعتقاله ووضعه في سجنٍ مظلم مدى الحياة, إن لم يكن إعدامه فوراً. ولم يكن ابن عامر ليخشى من عشيرته, ولا كان لابن سبأٍ هذا سجلٌ ناصعٌ في الإسلام لكي يضطر الوالي أن يحسب له حساباً.


وفي معرض النقاش لقصة ابن سبأ, لا بد من ذكر ما يلي :
-         سبب الثورة الشعبية على عثمان كانت سياسته هو بالذات وطريقة حكمِه الفاشلة. وللمقارنة, فإن أكثر من عشر سنوات من حكم عمر بن الخطاب لم تؤدّ إلى أي تمرّدٍ أو قلاقل شعبية.
-         لا يمكن أن يكون السابقون الأولون من صحابة الرسول(ص) بهذه السطحية والغباء حتى يدَعوا يهودياً خبيثاً يتحكم بعقولهم وسلوكهم.  
-         لم يكن التشيّع لعلي وآل البيت بدعة لاحقة في الإسلام نشأت في زمن عثمان, بل كان تياراً أصيلاً ترجع جذوره إلى أيام الرسول(ص) وامتدّت لما بعد وفاته. وهناك إجماعٌ تاريخي على أن عدداً من أهمّ صحابة الرسول(ص) , ممن ليسوا من أصول قرشية, كانوا متمسّكين بضرورة ولاية علي بن أبي طالب بعد رسول الله(ص). وعلى سبيل المثال كان منهم عمار بن ياسر وأبو ذر الغفاري وسلمان الفارسي والمقداد بن عمرو. وللدلالة على ذلك يمكن الإشارة إلى ما قاله الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري في المسجد النبوي في بداية عهد عثمان بن عفان :
" وقفَ بباب المسجد فقال : أيها الناس مَن عرفني فقد عرفني , ومَن لم يعرفني فأنا أبو ذر الغفاري , أنا جندب بن جنادة الربذي:
 إن الله اصطفى آدمَ ونوحاً وآلَ ابراهيم وآلَ عمران على العالمين, ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم. محمدٌ الصفوة من نوح, فالأول من ابراهيم , والسلالة من إسماعيل , والعترة الهادية من محمد. إنه شرف شريفهم واستحقوا الفضل في قوم هم فينا كالسماء المرفوعة وكالكعبة المستورة أو كالقبلة المنصوبة أو كالشمس الضاحية أو كالقمر الساري أو كالنجوم الهادية أو كالشجرة الزيتونة أضاء زيتها وبورك زبدها. ومحمدٌ وارث علم آدم وما فضل به النبيون. وعلي بن أبي طالب وصيّ محمد ووارث علمه.
أيتها الأمة المتحيرة بعد نبيها! أما لو قدّمتم من قدّم الله وأخرتم من أخّر الله وأقررتم الولاية والوراثة في أهل بيت نبيكم لأكلتم من فوق رؤوسكم ومن تحت أقدامكم , ولما عالَ وليّ الله, ولا طاش سهمٌ من فرائض الله ولا اختلف اثنان في حكم الله إلاّ وجدتم ذلك عندهم من كتاب الله وسنة نبيّه .
 فأما إذا فعلتم ما فعلتم فذوقوا وبالَ أمركم . وسيعلم الذين ظلموا أي منقلبٍ ينقلبون"[10]

نماذج من روايات سيف عن ابن سبأ

ومن المفيد استعراض مجموعة من الأمثلة على سيف بن عمر, ورواياته التي اعتمدها الطبري في تاريخه.

المثال الأول : هو موضوع ما جرى بين أبي ذر الغفاري وبين كل من معاوية وعثمان.
فالذي حدث في الحقيقة هو أن معاوية بن أبي سفيان كان يحتكر مصادر المال والثروة لنفسه ولبطانته والمرتبطين بنظامه, مما أوجد تمايزاً طبقياً ظاهراً في المجتمع بين الرؤساء الذين يتنعمون في الحياة , وبين العامة الذين كان كثيرٌ منهم في عَوز وحاجة. ولما سبّب له أبو ذر مشكلة حقيقية عندما طعن عليه وحرّض الناس ضد سياسته, قام بتسيير ذلك الصحابي الكبير من الشام إلى المدينة على بعير دون وطاءٍ حتى تآكل لحم فخذيه. وحين وصلَ أبو ذر المدينة, أمرَ الخليفة عثمان بن عفان بنفيه إلى الربذة[11] بعد جدلٍ دارَ بينهما أصرّ فيه أبو ذر على ألاّ يكفّ عن الطعن في الأمراء الذين شغلتهم الدنيا وجمع الثروات الطائلة. وخرج أبو ذر إلى الربذة ولم يجرؤ أحدٌ أن يودعه سوى علي بن أبي طالب وولديه الحسن والحسين ومعهم عمار بن ياسر. وبقي أبو ذر في منفاه حتى مات.

كيف تناولَ الطبري هذا الموضوع؟ لقد أعرضَ عن كل الروايات التي تكشف عن حقيقة ما جرى , واختارَ فقط ما رواه سيف بن عمر, لأنه الكاتب الوحيد الذي حفظ للسلطان ماء وجهه, واستنقذه من عواقب تلك الأحداث كما صرح بذلك الطبري نفسه في مستهل حديثه عن هذه القصة, فقال: [12]
" في هذه السنة, 30 للهجرة, كان ما ذكر من أمر أبي ذر ومعاوية, وإشخاص معاوية إياه من الشام إلى المدينة. وقد ذكر في سبب إشخاصه إياه منها أمورٌ كثيرة كرهتُ ذكرَ أكثرها.
فأما العاذرون معاوية فإنهم ذكروا في ذلك قصة كتب بها إلى السرى يذكر أن شعيباً حدثه سيف ...."
ويسرد الطبري هذه القصة مردداً بين فقراتها (قال سيف) (قال سيف) حتى أتى على آخرها . ثم قال : " وأما الآخرون فإنهم رووا في سبب ذلك أشياء كثيرة وأموراً شنيعة كرهتُ ذكرَها".
إذن يقرر الطبري , صاحب الموسوعة التاريخية الكبرى, أن ينقلَ فقط رواية سيف, ولا شيء غيرها! إذن هو يقرر أن يروي ما قاله "العاذرون معاوية" فقط, وأما الآخرون فالطبري كره ذكر أخبارهم!

والآن ما هي رواية سيف بن عمر التي يتمسّك بها الطبري فلا يروي سواها؟
" لمّا ورد ابن السوداء الشام لقي أبا ذر . فقال : يا أبا ذر, ألا تعجب إلى معاوية , يقول المالُ مالُ الله؟! ألا إن كل شيء لله, فكأنه يريد أن يحتجبه دون المسلمين ويمحو اسمَ المسلمين!
 فأتاه أبو ذر فقال : ما يدعوك إلى أن تسمّي مالَ المسلمين مالَ الله؟!
قال : يرحمك الله يا أبا ذر. ألسنا عباد الله, والمال ماله والخلق خلقه والأمر أمره؟
قال : فلا تقله.
قال : فإني لا أقول أنه ليس لله, ولكن سأقول مال المسلمين.
وأتى ابن السوداء أبا الدرداء . فقال له: مَن أنتَ ؟ أظنك والله يهودياً.
فأتى عبادةَ بن الصامت , فتعلقَ به, فأتى به معاوية. فقال : هذا والله الذي بعث عليك أبا ذر!
وقام أبو ذر بالشام وجعل يقول : يا معشر الأغنياء واسوا الفقراء. بشّر الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله بمكاوٍ من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم.  فما زالَ حتى ولعَ الفقراء بمثل ذلك وأوجبوه على الأغنياء, وحتى شكا الأغنياء ما يلقون من الناس."

ثم يذكر تسيير معاوية أبا ذر إلى المدينة على أحسن هيئة, فيكرمه الخليفة, رضي الله عنه, أحسنَ إكرام ويتلطف به, غير أن أبا ذر يصرّ على أن يهجر المدينة ليرتدّ أعرابياً! فيذهب باختياره إلى المنفى في الربذة, بناءً على وصية النبي(ص) له بأن يخرج من المدينة إذا بلغ البناء فيها منطقة سلع! وأن عثمان أكرمه وأعطاه إبلاً ومملوكين لرعايته.

وواضحٌ من هذه القصة أنها فصّلت لكي تدافع عن الحكام : عثمان ومعاوية.
ولكن وللأسف فإن ترويج هكذا رواية من قبل الطبري فيه إساءة عظيمة لواحدٍ من أرفع الصحابة السباقين إلى الإسلام مكانة, وهو أبو ذر! ففي سبيل الدفاع عن الحكام رضي الطبري أن يجعل أبا ذر في موقف التابع الغبيّ لإرادة اليهودي الماكر ( وهو ابن سبأ, الذي يلقبه بابن السوداء), ثم جعل منه رجلاً متمرداً على الخليفة بإيعاز من ذلك اليهودي, ثم جعل منه مرتداً أعرابياً بعد الهجرة!
إن الطبري باختياره هذا يصرح بالقول والفعل أنه قد وقف إلى جانب الأمير الغالب , ملتمساً له العذر على كل حال, وإن لم يجد هذا العذر إلاّ عند الوضّاع سيف بن عمر. وهذا هو السبب الوحيد الذي يفسر إعراضه المعلن عن سائر أحاديث "العاذرين أبا ذر" – وهو الطرف المغلوب- واكتفائه برواية "العاذرين معاوية" – وهو الأمير الغالب.[13]

ولم يوضح سيف بن عمر في روايته هذه ماذا فعل معاوية بابن السوداء بعد أن أحضره له عبادة بن الصامت؟ ولكن أخذاً بعين الاعتبار ما يرويه سيف عن نشاط ابن السوداء اللاحق في بلادٍ أخرى, فلا بد من الاستنتاج أن معاوية قد أطلقه, بكل بساطة!
*****

المثال الثاني : هناك روايةٌ غريبة يرويها الطبري, نقلاً عن سيف بن عمر, تقول أن عثمان بن عفان أرسلَ عمارَ بن ياسر إلى مصر لكي يتحقق من التطورات التي تجري هناك, وما يرويه الناس عن سوء الحكم وفساد الإدارة فيها. وتذكر الرواية أن عمارا تأخّر في العودة إلى المدينة كثيراً إلى أن وصل كتابٌ من والي عثمان على مصر, عبد الله بن سعد بن أبي السرح, يخبره فيه أن عماراً استماله قومٌ من مصر منهم عبد الله بن السوداء, وخالد بن ملجم, وسودان بن حمران وكنانة بن بشر![14]

ويمكن طرح العديد من علامات التعجب هنا :
- فكيف يمكن تصوّر أن عثمان بن عفان يختار عمار بن ياسر بالذات لهكذا مهمة؟! فعمار بن ياسر كان معروفاً عنه طعنه الدائم في سياسة عثمان وحكمه. ومن الثابت أن عماراً كان من المعارضين أصلاً لتعيين عثمان في منصب الخليفة, ومن المعادين للسيطرة الأموية على  مقاليد الحكم في الدولة. وكان عمار من الموالين المخلصين لعلي بن أبي طالب , وبقي على موقفه إلى نهاية عمره, بل ودفع حياته ثمناً لموقفه هذا. وقد تعرض عمار بن ياسر إلى عقاب قاسٍ جداً من الخليفة عثمان وصل إلى حد الضرب المبرّح الذي أدّى إلى الفتق والإغماء.
فهل لم يجد عثمان شخصاً آخر , غير عمار, ليرسله في المهمة المزعومة للتحقق من انتهاكات وتجاوزات ولاته هو؟! وهل يعقل أن يختار عثمان شخصاَ معادياً له إلى درجةٍ كبيرة, ليشهدَه على نظافة حكمِه وحُسن سياسة واليه, المشكوك في إسلامه, ابن أبي السرح؟
- وتضع هذه الرواية عبد الله بن سعد بن أبي السرح, المرتدّ القديم والحاكم الفاسد لمصر والذي كانت سياسته الظالمة سبباً لثورة الناس وتمرّدهم على عثمان, في موقع الحريص على مصلحة المسلمين, والناصح الأمين لخليفة الإسلام, الساعي إلى مواجهة المؤآمرة اليهودية الشريرة التي يقودها ابن سبأ؟! وفي المقابل تضع الرواية عمار بن ياسر , الصحابي العظيم الذي طالما تعذّب على رمضاء مكة في سبيل الإسلام ورسوله, في موقع المنساق وراء اليهودي الخبيث, والداخل في دهاليز الخيانة والتآمر مع الأشرار على الخليفة البريء وواليه المسكين؟!
- ويبدو واضحاً مدى التصنّع الظاهر في حشر اسم ابن سبأ بين مجموعة أسماءٍ لأشخاص حقيقيين, كانت لهم مساهمات بقتل عثمان لاحقاً.
*****
المثال الثالث : بل إن ابن عساكر[15] روى عن سيف بن عمر رواية أعجب من ذلك فيما يتعلق بمصر وعبد الله بن سبأ. وملخصها أن ابن سبأ قد رسَمَ لأتباعه, وخاصة سودان بن حمران والغافقي وكنانة بن بشر, خطة جهنمية لزعزعة الأوضاع فيها. فقرر لهم أن يطعنوا في الوالي عمرو بن العاص ويكثروا الشكوى منه وأن يطالبوا بتعيين عبد الله بن أبي السرح مكانه! وأنهم نفّذوا تلك الخطة إلى أن نجحوا في مسعاهم لدى عثمان بن عفان على خطوتين : فأولاً عيّن عثمانُ ابن أبي السرح على الخراج واستبقى عمراً على الصلاة بالناس . فسعى أتباع ابن سبأ بالإفساد بين ابن أبي السرح وابن العاص وأغروهما ببعضهما البعض! إلى أن نجحوا ثانياً وأخيراً في إقناع الخليفة, بناء على إصرارهم, بتعيين عبد الله ابن أبي السرح والياً مطلقاً على مصر!

ولا يمكن أبداً تصوّر أسخف من هكذا رواية. وهي لا تستحق أي تعليق.

*****

المثال الرابع : ولإظهار مدى الانسجام في روايات الطبري عن سيف بن عمر, واتخاذها نسَقاً واضحاً وثابتاً يتلخّص في الدفاع عن عثمان وسياسته مهما كانت, يمكن الإشارة إلى الطريقة التي صوّر فيها الطبري , من خلال روايات سيف وحده, فترة حكم الوليد بن عقبة بن أبي معيط في الكوفة[16]:  فهو يدافع بشدّه عن الوليد هذا. وهو يذكر أن الوليد كان يحظى بحب الجماهير ولكن "الخاصّة" كرهوه! فتآمروا عليه ولفّقوا له تهمة شرب الخمر كذباً . وأنهم لما اقتحموا عليه الدار فجأة أخفى شيئا كان معه تحت السرير, فلما انتزعوه وجدوه طبقاً فيه قطف عنب! ولمّا أعيتهم الحيلة لجأوا إلى "سرقة" خاتمه منه بينما كان نائماً وعنده اثنتان من زوجاته! وذهبوا إلى المدينة وشهدوا زوراً عليه أمام عثمان بأنه تقيّأ خمراً مما اضطره – ولم يكن راغباً – إلى تطبيق الحد عليه وجلدِه على يد سعيد بن العاص مما ولّد حقداً بين الإثنين وأولادهما.

وهكذا يحاول سيف بن عمر أن يظهر الوليد بن عقبة, الفاسق بالإجماع , وبالنص القرآني, وابن أعتى أعداء رسول الله(ص), بمظهر الوالي الطيب المسكين الذي يأكل قطفاً من عنبٍ لا غير!  بينما يحاول "الأشرار" الإساءة إليه, حتى أنهم يجرّدونه خاتمه من على إصبعه دون أن يشعر بهم لأنه نائم!


وفي هذا السياق أيضاً تندرج محاولة سيف تلطيخ سمعة زيد بن صوحان العبدي, وقلب الحقائق المتعلقة به. فقد اتفقت المصادر الأخرى, ومنها مثلاً ابن سعد والذهبي وابن حجر العسقلاني, على أن زيداً كان رجلاً مؤمناً مجاهداً وفَقدَ يدَه أثناء القتال ضد الفرس في معركة جلولاء او نهاوند أو القادسية, حتى أن الخليفة عمر بن الخطاب امتدحه أمام وفد أهل الكوفة وساعده بنفسه على الركوب على رحله قائلاً لهم "يا أهل الكوفة : هكذا فاصنعوا بزيد وإلاّ عذبتكم"[17]. وقال عنه الذهبي "كان من العلماء العبّاد "[18]. ووصل الأمر إلى حد أن صحابياً عظيماً هو سلمان الفارسي قد أمَرَهُ بأن يؤمّ أفراد جيش بقيادته في الصلاة ويخطبهم يوم الجمعة. وعندما توفي زيدٌ في أعقاب حرب الجمل بسبب إصابته البالغة في المعركة, فقد أوصى بأن لا يُغسَل من جراحه وأن يُدفن مصحفهُ معه!

ولكن هذه الحقائق لم تعجب سيف بن عمر , لأن زيداً كان من المعارضين الأشداء للخليفة عثمان, إلى درجة أنه نفاه إلى الشام , كما روى ابن سعد والذهبي , فقد قال زيدٌ لعثمان بن عفان " يا أمير المؤمنين : مِلتَ فمالت أمتكَ. اعتدل تعتدل أمتكَ. ثلاث مرات. قال : أسامعٌ مطيعٌ أنت؟ قال : نعم . قال : الحق بالشام". وأصبح زيدٌ , وأخوه صعصعة, من الثوار المتمردين على عثمان. وطبعاً كان زيدٌ من أشدّ المعارضين لتحركات أم المؤمنين عائشة المعادية لأمير المؤمنين عليّ. وقد روى الطبري نقلاً عن أبي مخنف أن زيداً كتب إلى عائشة عندما قدمت البصرة " أما بعد. فأنا ابنك الخالص إن اعتزلتِ هذا الأمر ورجعتِ إلى بيتك وإلاّ فأنا أول مَن نابذك"[19]

ماذا فعل سيف بن عمر تجاه هذه الشخصية الفذة المعارضة لعثمان وعائشة؟
لقد قرر أن يقلب أهم مفخرة لزيد بن صوحان, وهي يده التي قطعت في سبيل الله, إلى مثلبة! قرر أن يجعله لصاً سارقاً ! وفيما يلي نص رواية سيف :
قال زيد بن صوحان عن عائشة " اُمِرَت بأمر واُمِرنا بأمر : اُمِرَت أن تقر في بيتها واُمِرنا أن نقاتل حتى لا تكون فتنة. فأمَرَتنا بما اُمِرت به وركبت ما اُمِرنا به"
" فقام إليه شبث بن ربعي فقال : يا عُماني – وزيد من عبد القيس عُمان وليس من أهل البحرين- سَرَقتَ بجلولاء فقطعكَ الله وعصيتَ أم المؤمنين فقتلك الله . ما أمَرَت إلاّ بما أمر الله عز وجل به بالإصلاح بين الناس"[20] 
وهكذا يتهم سيفٌ زيداً, على لسان أحد أنصار عائشة, بأنه كان يمارس السرقة في حرب جلولاء , بدلاً من الجهاد! وللأسف فإن الطبري لم يُشِر إلى تهافت هذه التهمة.



*****
المثال الخامس : وأما أهم روايات سيف بن عمر التي أوردها الطبري في تاريخه, فيما يتعلق بابن سبأ, فهي تلك التي تتحدث عن دوره المزعوم في تطورات معركة الجمل[21].
فقد ذكر سيف أنه أثناء المداولات التي سبقت المعركة سأل الأعور بن بنان المنقري علياً :
" فقال : أترى لهؤلاء القوم حجة فيما طلبوا من هذا الدم إن كانوا ارادوا الله عز وجل بذلك؟
قال : نعم ..."
وذكر أيضا أن علياً ألقى خطبة جاء فيها ( عن مقتل عثمان ):
"  ... ثم حدثَ هذا الحدث الذي جرّه على هذه الأمة أقوامٌ طلبوا هذه الدنيا. حَسَدوا من أفاءها الله عليه على الفضيلة. وأرادوا ردّ الأشياء على أدبارها...
ألا وإني راحلٌ غدا فارتحلوا. ألا ولا يرتحلن غداً أحدٌ أعانَ على عثمان رضي الله عنه بشيء من أمور الناس"
وقال سيف إن الفريقين المتحاربين اتفقا على الصلح فيما بينهما وتجنب القتال " وأشرفَ القوم على الصلح , كره ذلك مَن كرهَهُ ورضَيهُ مَن رضَيه " , وذلك بعد وساطة من القعقاع بن عمرو
" فباتوا على الصلح , وباتوا بليلة لم يبيتوا بمثلها للعافية من الذي أشرفوا عليه, والنزوع عما اشتهى الذين اشتهوا وركبوا ما ركبوا. وبات الذين أثاروا أمر عثمان بشرّ ليلةٍ قط. قد أشرفوا على الهلكة"
ثم بدأ سيفٌ يتحدث عن الأشرار المتآمرين الذين يتزعمهم عبد الله بن سبأ, وكيف عقدوا اجتماعاً تشاورياً ليحددوا خطواتهم المقبلة :
" فاجتمع نفرٌ منهم علباء بن الهيثم, وعدي بن حاتم, وسالم بن ثعلبة العبسي, وشريح بن أوفى بن ضبيعة, والأشتر, في عدةٍ ممن سارَ إلى عثمان, ورضي بسير مَن سار. وجاء معهم المصريون ابن السوداء وخالد بن ملجم.
وتشاوروا . فقالوا : ما الرأي؟ وهذا والله عليّ وهو أبصر الناس بكتاب الله ممن يطلب قتلة عثمان...
فقال الأشتر : أما طلحة والزبير فقد عرفنا أمرهما . وأما عليّ فلم نعرف أمره حتى كان اليوم. ورأيُ الناس فينا والله واحد.  وإن يصطلحوا وعليّ فعلى دمائنا.
فهلمّوا فلنتواثب على عليّ فنلحقه بعثمان. فتعود فتنة يُرضى فيها مِنا بالسكون.
فقال عبد الله بن السوداء : بئسَ الرأي رأيتَ....
وقال علباء بن الهيثم : انصرفوا بنا عنهم ودعوهم....وارجعوا فتعلقوا ببلدٍ من البلدان ....
فقال ابن السوداء : بئسَ ما رأيتَ.....
فقال عدي بن حاتم : فإنّ لنا عتاداً من خيول وسلاحاً محمودا. فإن أقدمتم أقدمنا, وإن أمسكتم أحجمنا.
فقال ابن السوداء : أحسنتَ.
وقال سالم بن ثعلبة : .... والله لئن لقيتهم غداً لا أرجع إلى بيتي .... وأحلف بالله إنكم لتفرقون السيفَ فَرَقَ قوم لا تصير أمورهم إلاّ إلى السيف.
فقال ابن السوداء : قد قال قولاً.
وقال شريح بن أوفى : أبرموا أموركم قبل أن تخرجوا. ولا تؤخروا أمراً ينبغي لكم تعجيله, ولا تعجلوا امراً ينبغي لكم تاخيره. فإنا عند الناس بشرّ المنازل. فلا أدري ما الناس صانعون غدا إذا ما هم التقوا.
وتكلم ابن السوداء فقال : يا قوم إن عزّكم في خلطة الناس فصانعوهم. وإذا التقى الناس غداً فأنشبوا القتال ولا تفرغوهم للنظر . فإذا مَن أنتم معه لا يجد بداً من أن يمتنع. ويشغل الله علياً وطلحة والزبير ومَن رأى رأيهم عما تكرهون.
فأبصَروا الرأيَ وتفرقوا عليه والناس لا يشعرون"
ثم يقول سيف إن " المتآمرين " شرعوا في تنفيذ خطتهم
" ... اجتمعوا على إنشاب الحرب في السر. واستسرّوا بذلك خشية أن يفطن بما حاولوا من الشر.
فغدوا مع الغلس وما يشعر بهم جيرانهم. انسلّوا إلى ذلك الأمر انسلالاً وعليهم ظلمة.
فخرج مُضَريهم إلى مُضَريهم, وربيعهم إلى ربيعهم, ويمانيهم إلى يمانيهم, فوضعوا فيهم السلاح.
فثار أهل البصرة . وثار كل قوم في وجوه أصحابهم الذين بهتوهم"

وهكذا إذن صوّر سيف بن عمر موضوع حرب الجمل. وهكذا أوردها الطبري دون أن يشير إلى التناقضات الهائلة فيها, والتي لا تخفى على مثله.
-         فلا يمكن أبداً تخيّل الأشتر وهو يقترح قتل علي بن أبي طالب.
-         وعلي بن أبي طالب لا يمكن ان يقرّ بشرعية الثالوث الخارج عليه ويعترف بشرعية طلبهم بدم عثمان. فهو لم يقر بذلك الحق حتى لمعاوية, ابن عم عثمان, فكيف يقر به للثالوث؟
-         وليس هناك ذكرٌ لتفاصيل وشروط ذلك الصلح المزعوم. فعلى ماذا اتفق الطرفان؟ ليس هناك أي إشارة إلى قبول الثالوث بخلافة عليّ. وعليّ يستحيل أن يقبل بغير ذلك.
-         كيف يمكن أن يكون الثوار المصريون الذين شاركوا في قتل عثمان موجودين في البصرة؟ هم عادوا إلى مصر بعد الأحداث.
-         ليس صحيحاً على الإطلاق أن يكون تقييم عليّ  لمن تمرّدوا على عثمان بأنهم قومٌ " طلبوا هذه الدنيا وحسدوا من أفاءها الله عليه ".
-         فعلى العكس من ذلك , كان عليّ يعتبر عثماناً ورجاله من بني أمية هم الذين طلبوا هذه الدنيا واستأثروا على المسلمين.
-         ومتى كان عدي بن حاتم الطائي من المتهمين بقتل عثمان؟

ومما يلفت النظر برواية سيف هذه , تلك الأجواء التآمرية, التي تظهر عبد الله بن سبأ وهو يدير النقاش , ويستمع للآراء , ويقيّمها ويعلّق عليها, يرفض هذا الرأي ويصوّب غيره, إلى أن يصدر أمره الجازم بإنشاب القتال , فتقوم " قواته " بالتنفيذ على الفور.

وهدف سيف بن عمر , ومعه الإمام الطبري, من حبكاته هذه واضحٌ وجليّ : تبرئة الصحابة, وبالتحديد الثالوث المتمرد, من تهمة سفك دماء المسلمين والإفساد في الأرض وزرع الفتنة وشق صفوف الأمة.
وليس من سبيل لذلك سوى اللجوء لشخصية اليهودي الأسطوري الخبيث عبد الله بن سبأ ( ابن السوداء ). 

*****
المثال السادس : وفي رواية أخرى للطبري , أراد سيف بن عمر أن يعبّر عن رأيه هو في عليّ بن أبي طالب, فقرر أن ينسِبَ ذلك إلى ابنه الحسن بالذات ! فقد روى أن الحسن بن عليّ قد أبلغ أباه أن كل مواقفه خاطئة وأنه لو أطاعه لما حصل الذي حصل:
" قال : أمرتكَ يومَ أحيط بعثمان رضي الله عنه أن تخرج من المدينة فيقتل ولستَ بها.
ثم أمرتكَ يوم قتل ألاّ تبايع حتى تأتيك وفود أهل الأمصار والعرب وبيعة كل مَصر.
ثم أمرتك حين فعل هذان الرجلان ما فعلا أن تجلس في بيتكَ حتى يصطلحوا فإن كان الفساد , كان على يدي غيرك.
فعصيتني في ذلك كله"[22]
وهنا يظهر أن سيف بن عمر كان يتمنى لو أن علياً لم يتصدَ للخلافة والبيعة, ويتمنى أنه لم يخرج لملاقاة طلحة والزبير, فنسَبَ ذلك الرأي إلى ابنه الحسن. فسيفٌ يعتبر أنه كان من الأفضل لو بقي عليّ معتزلاً أمورَ المسلمين , قاعداً في بيته.
والعبارة الأخيرة التي استعملها " كان الفساد على يدي غيرك " خبيثةٌ جداً, وهي تشي بمقصد سيف الحقيقي. فهي تعني أنه ما دام عليّ قد عصى الحسنَ في ذلك, فالفساد كان على يديه هو. فغرضه أن يوحي بأن علياً هو سبب الفساد في الأرض.

*****
المثال السابع : ومن المفيد هنا أيضاً عرض رواية أخرى لسيف بن عمر ذكرها الطبري, رغم أنه ليس فيها دورٌ لابن سبأ. فهي تنسجم مع خطه العام الثابت في الاستبسال في الدفاع عن " الصحابة " وتبرير كل أفعالهم, مهما بدا ذلك الدفاع متهافتا. تلك هي قصة قتل خالد بن الوليد لمالك بن نويرة بحجة الردة, ودخوله على زوجته الجميلة .
فقد روى الطبري[23] نقلاً عن سيف بن عمر أنه لما ألقي القبض على مالك بن نويرة وقومه , قام أبو قتادة الأنصاري فشهد لصالحهم لدى خالد " ... فكان فيمن شهد أنهم قد أذّنوا وأقاموا وصلّوا.
فلما اختلفوا فيهم أمرَ بهم فحبسوا في ليلة باردةٍ لا يقوم لها شيء. وجعلت تزداد برداً.
فأمر خالدٌ منادياً فنادى : أدفئوا أسراكم.
وكانت في لغة كنانة إذا قالوا دثروا الرجل فأدفئوه دفأه قتله. وفي لغة غيرهم أدفه فاقتله.
فظن القوم وهي في لغتهم القتل, أنه أراد القتلَ فقتلوهم. فقتل ضرار بن الأزور مالكاً.
وسمع خالدٌ الداعية فخرجَ وقد فرغوا منهم. فقال : إذا أرادَ الله أمراً أصابه.
وقد اختلفَ القوم فيهم. فقال أبو قتادة : هذا عملكَ. فزبره خالد. فغضبَ ومضى حتى أتى أبا بكر.
فغضبَ عليه أبو بكر حتى كلمه عمرُ فيه, فلم يرضَ إلاّ أن يرجعَ إليه. فرجع إليه حتى قدم معه المدينة.
وتزوج خالدٌ أمّ تميم ابنة المنهال, وتركها لينقضي طهرها. وكانت العرب تكره النساء في الحرب وتعايره.
فقال عمر لأبي بكر : إن في سيف خالدٍ رهقاً. فإن لم يكن هذا حقاً حق عليه أن تقيده. وأكثرَ عليه في ذلك.
وكان أبو بكر لا يقيد من عماله ولا وزعته.
فقال : هيه يا عمر! تأوّلَ فأخطأ. فارفع لسانكَ عن خالد. وودى مالكاً.
وكتبَ إلى خالد أن يقدم عليه ففعلَ. فأخبرَه خبَرَه فعذره وقبلَ منه.
وعنفه في التزويج الذي كان تعيب عليه العرب من ذلك"

واضحٌ هنا أن سيف بن عمر في محاولته تفسير السلوك الوحشي لخالد, تفتق ذهنه عن حل مبدع : سوء فهم ناتجٍ عن اختلافٍ لغوي ! وليس ذلك فحسب , بل هو هنا يظهر خالداً بمظهر الحنون الحريص على صحة الأسرى وحمايتهم من البرد القارص, إلاّ أن رجاله فهموا ذلك على أنه أمرٌ بالقتل فنفّذوه.
ولكن سيف بن عمر لم يستطع أن ينفي الحقائق الثابتة المجمع عليها في هذه القصة :
-         قيام خالدٍ بقتل مالك , رغم إشهاره الإسلام وممارسته له بشهادة الصحابي المعروف أبي قتادة.
-         قيام خالد بالزواج من زوجة مالك . ولكن سيف بن عمر هنا يتلاعب فيقول " تركها لينقضي طهرها " للتغطية على حقيقة أن خالداً تزوجها فوراً كما أجمعَ المؤرخون والرواة.
-         إدراك الجميع لحجم الإثم الذي اقترفه خالد, وعظم جريمته, بما فيهم أبو قتادة وعمر بن الخطاب وأبو بكر نفسه, الذي قام بدفع دية مالك.
ولم يتردد الطبري في ذكر هذه الرواية المتهافتة التي صَمّمها سيفٌ من أجل تبرير جريمة خالد, لأنها تتفق مع سياسته في تأييد كل ما قام به " الصحابة " من أفعال على إطلاقها. ولو استطاع سيف بن عمر أن يجد مكاناً ليهودي كابن سبأ في هذه القصة  لفعلَ.

*****

المثال الثامن : وفي بعض رواياته وصل سيف بن عمر إلى مرحلة الشطط والغلوّ وهو يخالف ما تواترَ من أخبار صحيحةٍ , وذلك من أجل الدفاع عن الحاكمين. ومن ذلك رواية سيف حول بيعة علي بن أبي طالب لأبي بكر. فرغم الإجماع بين المؤرخين والمحدثين على أن علياً رفض البيعة وتقاعسَ عنها ستة أشهر, مما هو معلومٌ بالضرورة ولا خلاف عليه, إلاّ أن تلك الحقيقة لم ترُق لسيف الذي أصرّ على اختلاق روايةٍ تظهر مدى " لهفة " عليّ لمبايعة أبي بكر!
" كان عليّ في بيته , إذ أتي فقيل له : قد جلس أبو بكر للبيعة.
فخرجَ في قميصٍ ما عليه إزارٌ ولا رداء , عَجلاً , كراهية أن يبطئ عنها , حتى بايعه , ثم جلس إليه وبعث إلى ثوبه فأتاه فتخلله ولزم مجلسه"[24]
وهكذا فإن علياً لم ينتظر ليضع عليه رداءه وإزاره خشية أن يتأخر بضع دقائق عن بيعة أبي بكر, فذهب بدونهما ليبايع فوراً, وبعد ذلك أرسلَ مَن يحضرهما له فلبسهما!




ابن سبأ في الكتابات الحديثة

وبعد ذلك كله , من المفيد عرض إيجاز لكيفية تناول عدد من كتاب العصر الحديث لِ " عبد الله بن سبأ " ودروه في الأحداث التي جرت في عهد عثمان بن عفان.
فالدكتور حسن ابراهيم حسن في كتابه " تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي" اتهم أبا ذر الغفاري بدور رئيسي في " الفتنة " , وذكر أن " عبد الله بن سبأ " هو الذي حرّضه على تحدي سياسة عثمان ومعاوية, وانه روّج لفكرة اغتصاب الخلافة من عليّ وصيّ الرسول.
وأشار أحمد أمين في كتابه " فجر الإسلام " إلى أن أبا ذر الغفاري تأثّر بِ " عبد الله بن سبأ " الذي حرّضه على عثمان, وتلقّى أفكاره واعتنقها , بعد أن صبغها بصبغة الزهد, عن حسن نية.
ومحمد حسين هيكل في كتابه " بين الخلافة والملك " تحدّث عن دور " عبد الله بن سبأ " التخريبي في الدولة الإسلامية, وتشهيره بالسلطة ورموزها , وترويجه للتشيع لعليّ.
وذكر عباس محمود العقاد في كتابه " ذو النورين " أن " الغوغاء وشذاذ الأمصار " قد تعاونوا مع " عبد الله بن سبأ " واستجابوا له ولدعوته وهو يقول برجعة النبي ويتشيع لعلي.
وذهب محمد الخضري بك في " محاضرات في تاريخ الأمم الإسلامية " إلى اعتبار " ابن السوداء " مسؤولا عن كل " الفتن " التي شهدها الإسلام في الأمصار الإسلامية في الشام والعراق ومصر , حيث تعاون معه كثيرون مثل عمار بن ياسر وأبي ذر الغفاري, مما أدى إلى مقتل عثمان.
وأما علي حسني الخربوطلي في كتابه " الدولة العربية الإسلامية " فقد ذهب إلى أبعد مدى , وتجاوز كل الآخرين , في ربطه بين " ابن سبأ " وأبي ذر الغفاري الذي يصوره بمظهر التابع الذي يبذر الفتنة بتحريض من اليهودي. ووصل الخربوطلي إلى حد تشبيه دعوة أبي ذر بحركة مزدك الفارسية القديمة, حين قال ان الحركتين تتفقان على " وجوب نزع الثروة من الأغنياء وإطلاق المساواة إلى أقصى حدودها بين الأفراد ". وأشار إلى أن " ابن سبأ " نشأ في صنعاء " حيث تكثر العناصر الفارسية " , وبالتالي تشرّب بالمبادئ المزدكية ونقلها بدوره إلى أبي ذر, ومن ثم انضم إليه عمار بن ياسر ومحمد بن أبي بكر ومحمد بن أبي حذيفة!

وفي مقابل هؤلاء الكتاب الذين أوغل بعضهم في تطرفه في ترويج نظريات التآمر اليهودي , ممثلاً بابن سبأ , على المسلمين وخليفتهم, كان د. طه حسين في كتابه " الفتنة الكبرى " أكثر عقلانية وموضوعية في تناوله أحداث عهد عثمان.
أعلن طه حسين شكّه من حيث المبدأ في وجود شخصية " عبد الله بن سبأ ", واعتبر أن ما يُروى عن علاقته بأبي ذر الغفاري  وتحريضه له " إسرافٌ لا حقيقة له " . وقال عن الدور المزعوم " لابن سبأ " في أحداث الفتنة " هذه كلها أمورٌ لا تستقيم للعقل ولا تثبت للنقد ". وذكر طه حسين " وأكبر الظن أن عبد الله بن سبأ هذا – إن كان ما يروى عنه صحيحاً – إنما قالَ ما قالَ ودعا إلى ما دعا إليه بعد أن كانت الفتنة وعظم الخلاف. فهو قد استغل الفتنة ولم يُثرها. وأكبر الظن كذلك أن خصوم الشيعة أيام الأمويين والعباسيين قد بالغوا في أمر عبد الله بن سبأ هذا , ليشككوا في بعض ما نسب من الأحداث إلى عثمان وولاته من ناحية, وليشنعوا على عليّ وشيعته من ناحية أخرى, فيردّوا بعض أمور الشيعة إلى يهودي أسلمَ كيداً للمسلمين. وما أكثرَ ما شنّع خصوم الشيعة على الشيعة , وما أكثرَ ما شنّع الشيعة على خصومهم في أمر عثمان وفي غير أمر عثمان"[25]
وأضاف طه حسين إن نفس هؤلاء الذين أكثروا من ذكر ابن سبأ في عهد عثمان وحرب الجمل " قد نسوا السبئية نسياناً تماماً أو أهملوها إهمالاً كاملاً حين رووا حرب صفين" وأن السبب الحقيقي في ذلك هو أن " أمر السبئية وصاحبهم ابن السوداء إنما كان متكلفاً منحولاً قد اخترع بأخرة" و " أراد خصوم الشيعة أن يدخلوا في أصول هذا المذهب عنصراً يهودياً إمعاناً في الكيد لهم والنيل منهم. ولو قد كان أمر ابن السوداء مستنداً إلى أساس من الحق والتاريخ الصحيح لكان من الطبيعي أن يظهر أثره وكيده في هذه الحرب المعقدة المعضلة التي كانت بصفين"[26] 

كما أن الباحث الأكاديمي هشام جعيط في كتابه المهم حول الفتنة, تجاهل ذكر "عبد الله بن سبأ" تماماً, ولم يتطرّق له إلاّ في بضعة سطور, وذلك في معرض نفيه لأي دور لهذه الشخصية المزعومة , والتي وصفها بأنها " بدعة توهمية "[27], في الأحداث الهامة التي وقعت.

ورفض د. علي الوردي تصديق وجود هذه الشخصية وقال عن ابن سبأ " ولستُ أجدُ في التاريخ حكاية وهمية تروج وتبقى على توالي الدهور مثل هذه الحكاية السخيفة". وقال أيضاً " إن الأعمال العظيمة التي تنسب إلى عبد الله بن سبأ لا يمكن أن يقوم بها إلاَ عبقري أو ساحرٌ أو منوّم مغناطيسي من طراز فذ. فهو لا بد وأن يكون ذا عيون مغناطيسية تكسر الصخور, أو ذا قوة نفسية خارقة تجعل الناسَ أمامه كالغنم يتأثرون بأقواله من حيث لا يشعرون"[28]

ومن أبرز الذين أنكروا وجود ابن سبأ أيضاً كل من مرتضى العسكري وعبد العزيز الهلابي وعلي سامي النشار.


 كلمة حول جاذبية قصة ابن سبأ

وختاماً لا بد من الإشارة إلى أن مأساة الشعب الفلسطيني , وما تعرضت له أرض فلسطين من اغتصاب على أيدي اليهود الصهاينة في القرن العشرين, كان سبباً إضافياً لرواج مقولات التآمر اليهودي على الإسلام والمسلمين بين العامة. فقصة " عبد الله بن سبأ " اليهودي وضلوعه في المكائد والدسائس تنسجم تماما مع ما مارسته الحركة الصهيونية من دور مهم في الضغط على صانعي القرار في الامبراطورية البريطانية من أجل إصدار وعد بلفور ومنح فلسطين لليهود. ومن الراسخ في أذهان عامة المسلمين أن اليهود في هذا العصر يواصلون حبك خيوط مؤآمرات متواصلة ضد الإسلام , وأنهم ينفذون خططهم الشريرة من خلال أدوات وجهات أخرى تعمل لصالحهم, وعلى رأسها أمريكا.
وهناك عددٌ كبير من المسلمين اليوم يؤمنون أن اليهود وضعوا بالفعل " بروتوكولات حكماء صهيون " التي هي عبارة عن خطة سرية من أجل تمكين اليهود , الأقلية الصغيرة في العالم, من السيطرة على العالم كله عن طريق تحطيم الأديان الأخرى, ومنها الإسلام, وتسخير الكثير من الشخصيات المهمة, في كل المجتمعات , في خدمة الحركة اليهودية.
وهذا التشابه بين الدور التآمري, المزعوم, الهائل والضخم, لابن سبأ, وبين ما حَوَته " بروتوكولات حكماء صهيون" , التي راجت أولاً في روسيا القيصرية, من خططٍ محكمةٍ للهيمنة على العالم, يجعل لرواية " عبد الله بن سبأ " جاذبية إضافية بين عامة المسلمين. فالأحداث السياسية المعاصرة , ومصالح الدول, وصراعات الأمم , تلعب دوراً في تحديد نظرة الكثيرين إلى أحداث التاريخ, عن طريق الربط التعسفيّ بين مواقف وأحداث ذات أبعاد رمزية كبيرة.









[1] من مقدمة كتاب العلل لاحمد بن حنبل ج1 ص11
[2] أرجعَ د. حامد محمد الخليفة في كتابه "الانصاف" ص174 أسباب الثورة على عثمان إلى سببين أولهما " بطر النعمة التي أصبح فيها كثير من الناس, نعمة الأمن ونعمة العطاء والخير الذي عمّ جميع المسلمين... والأمر الآخر : المكر والدهاء اللذين مارسهما ابن سبأ ومنظمته السرية التي تقوم بالتشويش على الخلفاء والتغرير بعوام الناس وتشجيعهم على الخروج على ولاتهم".
[3] روى سيف بن عمر " كان عبد الله بن سبأ يهودياً من أهل صنعاء. أمه سوداء. فأسلم زمان عثمان, ثم تنقل في بلدان المسلمين يحاول ضلالتهم. فبدأ بالحجاز ثم البصرة ثم الكوفة ثم الشام. فلم يقدر على ما يريد عند أحد من أهل الشام, فأخرجوه حتى أتى مصر" تاريخ الطبري ج3 ص378
[4] قال سيف إن ابن سبأ قال لأهل مصر" أعجب ممن يزعم أن عيسى يرجع ويكذب بأن محمدا يرجع...فمحمدٌ أحق بالرجوع من عيسى... فقبلوا ذلك منه... ثم قال لهم إنه كان ألف نبي ولكل نبي وصِيّ وكان علي وصِيّ محمد..." تاريخ الطبري ج3 ص378
[5] ولمزيد من التفاصيل , بالإمكان الرجوع إلى الكتاب الذي ألّفه مرتضى العسكري " عبد الله بن سبأ وأساطير أخرى", وأيضاً "نحو إنقاذ التاريخ الإسلامي" لحسن المالكي.
[6] "المؤرخون العرب والفتنة الكبرى" لعدنان ملحم ص 69-77
[7] للأسف فإن كتاب سيف هذا مفقود ولم يصلنا. وهذا حال معظم كتب ومصنفات الإخباريين القدماء الأوائل الذين ضاعت أعمالهم ولم يصلنا منها إلاّ ما ذكره المؤرخون الحافظون الكبار من أمثال الطبري والبلاذري.
[8] "المؤرخون العرب والفتنة الكبرى" لعدنان ملحم ص 72
[9] "المؤرخون العرب والفتنة الكبرى", لعدنان ملحم ص235
[10] تاريخ اليعقوبي ج2 ص 171. وإن سيرة أبي ذر اللاحقة مع عثمان وأركان حكمه, وما تعرض له من عقاب قاس, ومصيره المُحزن, تجعل من صحة نِسبة هذه الخطبة له أمراً مرجحاً.
[11] وبلغت شهرة حادثة النفي تلك إلى حد أنه حتى ابن اسحاق قد ذكرها بقوله " لما نفى عثمان أبا ذر إلى الربذة, وأصابه بها قدره, لم يكن معه احد إلاّ امرأته وغلامه ... " في السيرة النبوية لابن هشام ج4 ص139
[12] تاريخ الطبري ج3 ص335- 337
[13] وفي موضع آخر , أعلن الطبري أنه قرر الإعراض عن ذكر كثير من الأسباب التي كانت وراء الثورة التي أدت إلى قتل عثمان. فقال في ج3 ص399 " فأعرضنا عن ذكر كثير منها لعلل دعت إلى الإعراض عنها" ولم يوضح ماهية تلك العلل, إلاّ أنه من الواضح أن ذلك يندرج في نطاق سعيه للدفاع عن عثمان.
[14] تاريخ الطبري ج3 ص379
[15] تاريخ دمشق لابن عساكر ج39 ص301. ويبدو أن ابن عساكر كانت لديه نسخة من كتاب سيف بن عمر, لأنه لم يشِر إلى الطبري في روايته هذه عن سيف. وقد أخرج ابن عساكر في تاريخ دمشق ج29 ص3-10 ترجمة لابن سبأ, جاء فيها أن علي بن أبي طالب قد نفى ابن سبأ إلى ساباط المدائن لأنه قال له " أنتَ خلقتَ الخلقَ وبسطتَ الرزقَ", ومن ثم أحرق أحد عشر رجلاً من "السبئية" بالنار لأنهم قالوا بألوهيته!
[16] تاريخ الطبري ج3  ص 331  
[17] الطبقات الكبرى لابن سعد ج6 ص123-126. وقريب من ذلك ورد في الإصابة لابن حجر ج2 ص533.
[18] سير أعلام النبلاء للذهبي ج3 ص525
[19] تاريخ الطبري ج3 ص492
[20] تاريخ الطبري ج3 ص498
[21] ناريخ الطبري ج3 ص507 و ص518
[22] تاريخ الطبري ج3 ص474
[23] تاريخ الطبري ج2 ص502
[24] تاريخ الطبري ج2 ص447
[25] ملخص مأخوذ عن كتاب " أئمة وسحرة " لابراهيم محمود ص221 - 229
[26] الفتنة الكبرى – علي وبنوه ص90
[27] " الفتنة" لهشام جعيط ص109
[28] وعاظ السلاطين , ص111.